تاريخ حلب الطبيعي في القرن الثامن عشر أهم كتاب كتب عن المدينة
“البعث الأسبوعية” فيصل خرتش
من أهم المؤلفات التي ألفت عن مدينة حلب كتاب “تاريخ حلب الطبيعي” للأخوين راسل، وفيه وصف حيَ ورصد دقيق لجوانبها المختلفة في عقدين من الزمن، فالكتاب يأخذ بيدنا ويجعلنا نتجول في شوارعها وأزقتها وجدرانها، حاراتها وخاناتها وبساتينها ومساجدها وكنائسها، ولا يكتفي بذلك حتى يجعلنا نرى أثاث بيوتها وأزياء أهلها، إننا نشم روائح العطور والمآكل، ثم يعود بنا لنسمع أصوات الباعة والأطفال في الشارع.
والكتاب اعتمد على المصادر الإسلامية كالقرآن الكريم والسنة النبوية وبعض المؤلفات العربية، كذلك ردَ على الأوروبيين الذين يزورون تاريخ المدينة، بأنهم لا يعرفون اللغة العربية، لذا يجد هؤلاء سهولة كبيرة في تصوير الأمور وفق أهوائهم، وينظرون إلى المسلمين على أنهم أدنى مقاماَ، ومآلهم الهلاك والعذاب، وهذه الأمور تؤخذ من الأتراك ومن اليهود، وقد ادعى بعض التجار الفرنسيين بأن المرأة الحلبية تحب الأجانب وتسعى إلى إغوائهم من وراء النوافذ والأبواب، وقد أجابهم باتريك على ذلك، بقوله: “أما بالنسبة إلى قصَة التجار الفرنسيين فإني أميل إلى الاعتقاد بأنها من نسج الخيال، لأنها لا تتماشى مع مفاهيم اللباقة والاحتشام في هذا البلد”.
وحينما ادَعى بعضهم أن المسلمين يصلون في الأماكن العامة مراعاة ونفاقاَ او لإعطاء انطباع لجيرانهم بأنهم ورعون، رد عليهم، بقوله: “هذا غير صحيح على الإطلاق”.
يقول المترجم الأستاذ خالد الجبيلي عن الكتاب: “عندما اطلعت على الكتاب لأول مرة، شعرت بأنني أمام وثيقة هامة كتبها طبيبان انكليزيان أقاما عشرين عاماَ في هذه المدينة وسجلا عن أهلها وطبيعتها ما لم يسجله أحد قبلهما وربما بعدهما بهذه الدقة والموضوعية، وهذا الكتاب ليس تاريخاَ بل دراسة أنتروبولوجية عن المجتمع في حلب، إن الكتاب ينبض بالحيوية والحركة، ونحن نرى السكان وهم يتناولون طعامهم ويحتسون قهوتهم، ونقرأوصفاَ دقيقاَ وشاملاَ عن حماماتهم التي كانت ترتادها النساء بألعابهن وثيابهن، عن بيوتهم وأسواقهم وخاناتهم وأعراسهم وجنائزهم، وما إلى هنالك من أمور حياتية يدفعنا الفضول لمعرفتها”.
ولد الطبيب الكسندر راسل في أدنبرة عام 1715 ابن لمحام بارز، وبعد أن أنهى دراسته للطب، قدم إلى حلب واستقر فيها عام 1742 مشرفاَ طبياَ على الجالية البريطانية حتى عام 1753 وأتقن اللغة العربية، ثم راح يشرف طبياَ على أهالي حلب من مختلف الجنسيات، وغادر المدينة في عام 1754 إلى إنكلترا، ثم انتخب طبيباَ في مستشفى سانت توماس وخدم فيه حتى وفاته عام 1768.
أما باتريك الذي ولد في عام 1727 في أدنبرة أيضاَ فقد كان طبيباَ وعالماَ في التاريخ الطبيعي، انضم إلى أخيه من أبيه ألكسندر في حلب عام 1750 وحل محله وبقي حتى عام 1768، وتابع دراسة أخيه عن الطاعون فيها، وكان قد تفشى فيها عام 1760ـ 61 ـ 62، وقد صدر الكتاب في لندن، وجد فيه ثغرات كثيرة، فأرسل إلى أخيه باتريك الذي مازال مقيماَ في حلب، وطلب إليه مراجعة الكتاب وتصويبه وإدخال التعديلات عليه، فقام بتبويبه وتنسيقه والإضافة إليه حتى أصبح بالشكل الذي بين أيدينا وصدر عام 1794، توفي باتريك عام 1805، انتخب عضواَ في الجمعية الملكية لدى شركة الهند الشرقية، وهناك أجرى دراسات حول بعض النباتات والأسماك والزواحف، كما قدم دراسة عن الأفاعي السامة ثم قفل راجعاَ من الهند، ظل باتريك عزباَ كل حياته.
الكتاب مكتوب بأسلوب علمي رصين، فهو مليء بالإحصاءات والأرقام، إنه يحدثنا عن الطقس في حلب خلال أشهر السنة، فيقول: “وكان مقياس الضغط الجوي (الباروميتر) المستخدم طوال الوقت جهازاَ ممتازاَ، وكان يجري فحص الأجهزة مرتين كل أربع وعشرين ساعة، مرة في الساعة السابعة صباحاَ، وأخرى في الثالثة بعد الظهر في الصيف، وبعد ساعة من هذا الموعد في الشتاء”، وهذا يحمل على الإعجاب بتلك الجهود المضنية، وكذلك عندما يدرس مرض الطاعون، فهو يقدم المرض بأنه يصيب المدينة كل عشر سنوات وهو غير مستوطن فيها، ولا ينتشر أبداَ في الشتاء، بل مع قدوم الربيع، ويصل ذروته في شهر حزيران ويتدنى بسرعة في تموز، ويختفي بالتأكيد في شهر آب، وقد ألحق الطاعون في عام 1719 ضرراَ شديداَ في حلب، وانتشر بسرعة كبيرة في الربيع، واعتكف الأوربيون في منتصف آذار وظلَوا كذلك حتى منتصف تموز”. إن هذه الدقة والموضوعية لا نجدها إلا عند العلماء الذين يستحقون التقدير.
وعن علاج مرض الطاعون يعتبر السكان أنه لعنة أنزلها الله تعالى لمعاقبة الآثمين الذين لايؤمنون كثيراَ بفعالية الدواء للشفاء من هذا المرض، لذا يترك المصابون وهم يصارعون المرض دون أية مساعدة طبية، منها أيضاَ الرسوم التي تزين الكتاب، وهي تصور سكان حلب ورجال الدولة في صور نفيسة لا نجد لها مثيلاً في كتاب آخر.
والكتاب يشمل كل نواحي الحياة من بيئة وعادات وتقاليد وانتهاء بالأمور الطبية “فالسكان بشكل عام متوسطو الطول، ويميلون إلى النحافة أكثر من ميلهم إلى السمنة، وهم متوسطو الجمال، إلا أنهم ليسوا أقوياء وغير نشيطين، ومن النادر أن نرى رجلاَ أحدب أو مشوهاَ، بشرتهم بيضاء وشعرهم أسود أو كستنائي داكن، وعيونهم سود، ويتمتع كلا الجنسين وهم في سن الطفولة بالجمال، لكن عندما يكبرون سرعان ما تشوه اللحى وجوههم، أما النساء فيفقدن بريق شبابهن بسرعة”.
إنه يتحدث عن السكان من الناحية الاجتماعية، كما يتحدث عن الوافدين على المدينة، واعتمد في ذلك على التجربة الشخصية، قهو يقول: “يمكن للأطباء والممرضين، سواء أكانوا أوروبيين أم من أهالي حلب، الدخول إلى الحرملك في جميع الأوقات، عندما يقتضي حضورهم ذلك، فبعد أن يعلن عن حضور الطبيب يتعين عليه أن ينتظر عند الباب حتى يتم إخلاء الطريق لكي يمر، ثم تقوده إحدى الخادمات إلى غرفة المريضة، وهي تنادي بصوت مرتفع “طريق، طريق، الحكيم جاي” وهذا يتم عن تجربة شخصية، أو قوله: “ولا تتردد النسوة في الكشف عن رقبتهنَ أو صدورهنَ وحتى عن بطنهنَ، عندما يتطلب الموضوع فحصها، إلا أنهنَ لا يوافقن على الكشف عن رأسهنَ إلا بعد ممانعة شديدة، فقد كنت أعرف شابات صغيرات لم يكن يبالين بإخفاء وجوهنَ عني بسبب معرفتي الطويلة بهنَ، إلا أنهنَ لم يكن يظهرن أمامي بدون منديل، أو أي غطاء خفيف آخر يلقى على رأسهنَ، وحسب تقديري.
وقد حصل على معلومات في غاية الدقة، ويظهر أن نساء الطوائف الأخرى كن يبلغنه بها، ففي وصفه للحمام النسائي، يقول: “تبقى النساء في الحمام فترة أطول بكثير من الرجال، ويعتبر الغسيل وتضفير الشعر عملاَ شاقاَ بالنسبة لهن، كما يضطررن للدخول بالدور، وهذا أمر يثير الكثير من المشاحنات والمشاجرات”.
وكذلك رجع مؤلفا الكتاب إلى كتاباتات الرحالة الأوروبيين فاستخرجا معلومات هامة من أجل الدقة والصواب والأمانة العلمية، ففي حديثهما عن لعب الميسر، يقولان: “انظر حول هذا الموضوع (سيلز، بوكوك) ويلاحظ هذا الأخير أن الميسر يشمل ألعاب النرد والورق والشطرنج، أما بالنسبة للصور فهي تشمل كافة الأشكال البشرية، فثمة خلاف بين العلماء، وأن تحريمها أقل بكثر من تحريم الميسر، انظر دوهسون، المجلد الثاني ص 235 وهذا كثير لديهما.
لقد عمدا إلى نقد الكتب التي ألفها الأوروبيون والتي لم تنل استحساناَ لديهما، كما نقدا كثيراَ من المعلومات الخاطئة التي أوردها المؤلفون الأوربيون، من ذلك قولهما: “يضم المجلد السادس من مذكرات م. دارفيو وصفاَ دقيقاَ لمدينة حلب، ونسرد فيها بعض الأمور غير الدقيقة، والتي تعزى إلى المحرر وليس إلى المؤلف، فالصفة “الشهباء” تكتب “شيلا”، وكلمة “بال” عوضاَ عن “باب”، وباب المقام مترجم باب السيدات، وكلارت بدلاَ من قلة، وسوناكات بدلاَ من ساحة”. ثم يعقب على ذلك بقوله: “إن شخصاَ متضلعاَ إلى هذه الدرجة باللغة العربية مثل دارفيو لا يمكنه أن يقع في مثل هذه الأخطاءالفاحشة، فإما أن تكون أوراقه قد نسخت بإهمال شديد، أو أن محرر كنابه قد ملأ فجوات يمكن أن تكون قد صادفها في المخطوطة عن مؤلفين آخرين يجهلون اللغات الشرقية”.
وقد تحلَى المؤلف بروح الإنصاف والتسامح عندما اعتبر المسلمين أناساَ نظيفين، ويعود ذلك إلى الوضوء الذي يمارسونه قبل الصلاة، وكذلك الزكاة، فهي تعتبر أحد أركان العقيدة الإسلامية، فأمة الإسلام تحب الخير عندما توزعها على المحتاجين والفقراء.
وأساء الكثير من الكتاب الأوروبيين عن تعدد الزوجات لدى المسلمين، وهذا واضح بالقرآن الكريم، حيث تقول الآية المتعلقة بالزواج “فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم” ( النساء 3 ) وإذا لم يكتف الرجل بزوجة واحدة أمكنه أن يتزوج أخريات شريطة ألا يتجاوز عددهن أربعة.
في النهاية لابد من شكر المترجم خالد الجبيلي الذي أتاح لنا على الاطلاع على مثل هذا الكتاب الذي يعالج عدة علوم، منها الهندسة والزراعة والاقتصاد والطب والمجتمع، وهذا العمل عمل ممتاز ستذكره الأجيال القادمة.
ـ تاريخ حلب الطبيعي
ـ الأخوين راسل
ـ ترجمة: خالد الجبيلي
ـ عدد الصفحات: 233 صفحة
ـ القطع: كبير