مجلة البعث الأسبوعية

الترام الضائع بين الحنتور والحافلة

البعث الاسبوعية-غالية خوجة

لا تخلو مشاهد مدينة حلب من ذاكرة الكبار من الآباء والأجداد الذين يتحسرون على حافلات الترام الكهربائية وهي تدور بهم بين خط “السراي-محطة الشام” الذي استمر لغاية الستينيات وهو يمضي من ساحة الملح فجب القبة وباب الحديد وباب النصر وباب الفرج وشارع القوتلي وساحة سعد الله الجابري والجميلية والجسر القريب من المالية ومؤسسة الخطوط الحديدية.

بينما يأخذهم خط خان الحرير الذي ألغي في أواخر الخمسينيات من خان الحرير القريب من الجامع الأموي الكبير إلى دائرة النفوس القديمة متجهاً إلى باب الجنان ثم ساعة باب الفرج يليها شارع النيال والحميدية وينتهي في مجمع التدريب المهني بميسلون مقابل سوق الأحد الشعبي الشهير.

كم كانوا سعداء وهم يدورون متنقلين لقضاء أمورهم وحاجاتهم اليومية، ويغنون: “ع الترماية يا عيوني شكلها أصفر ليموني، ع الترماية يا عيوني وعيونك وحدون جننوني”.

وترتبط ذاكرة الترام بحلب مع دمشق التي بدأت رحلتها مع الترام عام 1907م من ساحة المرجة إلى باب مصر في منطقة الميدان، ثم وبعد سنتين تم تفعيل خط آخر إلى الجسر الأبيض، وبعد سنتين متتاليتين امتد إلى منطقة المهاجرين، بينما مسار الخط الثالث فيمتد من الجسر الأبيض إلى جامع الشيخ محيي الدين بن عربي، وأضيف الخط الرابع ليصل إلى باب توما والعباسيين، إضافة إلى أن الرحلة كانت تصل إلى دوما في الغوطة الشرقية مروراً بقرى جوبر وزملكا وحرستا لتعود إلى ساحة المرجة، لكن الترام توقف عام 1962.

بنات عزرائيل في حلب!

للحلبية طريقتهم الخاصة جداً في التعامل مع كل شيء، ولهم طريقتهم الترميزية بلهجتهم الحلبية، لذلك كانوا يسمون هذه الحافلات الكهربائية بـ “الطراماي”، ولفظها الصحيح “الترامواي-TRAMWAY” نسبة لشركة أجنبية تم التعاقد معها من أجل تمديد السكك والخطوط الكهربائية الخاصة بالترام الكهربائي بدأً عام 1927م، إلاّ أن أول حافلة سارت وهي “تتغندر” على سكتها في شوارع حلب ظهرت يوم الجمعة 28 كانون الأول 1928على خط الجميلية-جب القبة، بينما تمّ اعتماد الترام وسيلة نقل حديثة وبشكل رسمي عام 1929م، وفي هذا العام بلغت المبيعات مليون ونصف مليون بطاقة، و11 مليون بطاقة عام 1943، وبلغت ذروة المبيعات عام 1954 لتصل إلى 20 مليون بطاقة.

أحبّ الحلبية الترامواي كثيراً لكنهم وبعدما فوجئوا باصطدام إحدى حافلات الترام بأحد الحناتير غيروا رأيهم بالترامواي وأطلقوا تسمية “بنات عزرائيل” على الحافلات الكهربائية لأنها حصدت العديد من الضحايا في أول حادث لها، مما دفع الجهات المسؤولة إلى تحذير الأهالي من الانتباه أثناء الانتقال بين السكك الحديدية للترام.

 الحافلة العامة ضربة قاضية

وكانت للحناتير “عربنجيه” محطاتها المختلفة بين تراب الغرباء وباب الحديد والجميلية وباب الفرج والعبّارة، وإضافة لهاتين الوسيلتين في النقل كان الناس يتنقلون بوسائل نقل حية كالحمير والأحصنة والدواب، ثم بدأت الدراجة الهوائية تساهم في حركة النقل عام 1902، وما لبثت السيارة أن ظهرت لأول مرة بحلب عام 1909م، ومع هذه الوسائل المختلفة للنقل استمر الترام في ذاكرة حلب 20 عاماً متواصلة، ثم بدأ بالتراجع التدريجي إلى أن تمّ توقيفه نهائياً عام 1969م بسبب الانتقال إلى الحافلات العامة الداخلية “الباصات”، وكثيرون من الأجداد يذكرون باص “أبو مروان” وباص “شركة كهرباء حلب”.

طرائف ترامية

من طرائف الترام أن تنقطع الكهرباء أحياناً، ويبدو أنها عادة متأصلة، مما يجعل الركاب ينتظرون، أو يغادرون، ومن تلك الطرائف أن يشد أحد المشاغبين الكابح “الفرام” الخلفي، فتتوقف، وخصوصاً إذا كان المسار باتجاه مرتفع، مثلاً “طلعة باب النصر”، فيحتار الركاب بأمرهم، ويتجه بعضهم لمن فعل ذلك ويؤدبونه بطريقتهم الخاصة أيضاً.

هل يعود الترام إلى حلب؟

يتمتع الترام بمزايا مختلفة منها مقصوراته التي خصصت إحداها للنساء، وخصصت مقصورة أخرى لركاب الدرجة الأولى ويسميها الحلبية “ع اللوج” أي أعلى أشكال الفخامة، ومقاعدها مريحة لأنها من الجلد الوثير، وسعر تذكرتها أغلى بنصف فرنك من سعر تذكرة الدرجة العادية ذات المقاعد الخشبية الجميلة.

ولو كنا نستقل حافلات الترام في تحركاتنا لاستطعنا التأمل والتفكير ونحن ننظر من خلال النوافذ الزجاجية إلى السماء، ثم إلى وجوه الناس وهي تمضي لقضاء شؤونها اليومية، لنكتشف عالماً متحركاً في مشاهد تشكّل مسلسلاً لا ينتهي من الحكايات الطالعة من مسرح الحياة.

وربما، لا يوقظك من هذا الشرود كراكب سوى صوت جرس الترام الذي يضغطه السائق بقدميه عدة مرات منبهاً لوصوله للمحطة، أو منبهاً للمارة لكي يبتعدوا عن مساره، وحينها، يخطر لأحد الركاب أن يبدأ بالأغنية الشعبية المحتفية بالترام: “شوف التراماي يا عيوني شكلا أصفر ليموني، شبابيكا من بلور أمّا ضهرا كمّوني”.

ترى، ماذا لو عاد الحنتور مجدداً مع الترام الكهربائي أو الترام ببطارية أو بالطاقة الشمسية، ونالت كل وسيلة نقل حقها، ألا تبدو الحياة أكثر تنوعاً وجاذبية وفانتازية واجتذاباً سياحياً؟.