وليد إخلاصي رائد الحداثة السردية والتجريبية المسرحية
البعث الأسبوعية-غالية خوجة
أن تمر 87 سنة من العمر بين التأليف والقراءة والإبداع، فهذا يعني أن الإنسان استثمر حياته في حيوات أخرى من أجل الآخرين، وتلك جمالية الإنسان المبدع الذي يشع مع رسالته الأدبية والإنسانية وهويته المحلية مزدهراً بوطنه ولغته وانتمائه، متحدياً بالكتابة الظلمات، لأنه مؤمن أن الجهل لن يمكث، بينما النور فلا بد أن يبزغ ليلاً ونهاراً.
وهذا الإيمان بالأبجدية الناصعة ما يدفع المبدعين لمزيد من التحدي والاستمرار، لتكتمل حياتهم مع إنتاجاتهم، وكم من مبدع عربي سوري ودعنا خلال هذه الفترة العصيبة، وها هو وليد إخلاصي يغادرنا جسداً، ويمكث بيننا روحاً وإبداعاً متراوحاً بين القصة والرواية والمسرح والشعر والدراسة والمقالات الصحافية، وترجمت أعماله إلى عدة لغات، منها الإنكليزية والفرنسية والألمانية والهولندية والأرمينية والروسية واليوغسلافية والبولونية .
ترأس إخلاصي فرع اتحاد الكتاب العرب في حلب أكثر من مرة، عضو منتخب في مجلس اتحاد الكتاب العرب لثلاث دورات متتالية، عضو جمعية القصة والرواية، نال العديد من الجوائز العربية والمحلية، منها: جائزة اتحاد الكتاب العرب التقديرية بدمشق 1990، جائزة القصة العربية- محمود تيمور في مصر 1994، جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في الرواية والمسرحية في دورتها الخامسة 1996، كما حاز على وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة، وساهم في تأسيس مسرح الشعب والمسرح القومي والنادي السينمائي بحلب، كماعمل في الصحافة الأدبية وخصوصاً في مجلة الموقف الأدبي.
استطلعت “البعث الأسبوعية” آراء العديد من الكتاب والفنانين والمخرجين، وفوجئت ببعض الآراء التي تعدد أعماله والجوائز التي نالها فقط! بينما التقت آراء أخرى حول التميز المتناغم بين روح وليد إخلاصي وشخصه وكتاباته، مؤكدين على أهم السمات الفنية والشخصية ومواقفه المنحازة للإنسان والجمال.
مواقف منحازة للإبداع والفقراء
بصوت متألم وروح حزينة، قال د.فاروق أسليم عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب: وليد إخلاصي أديب كبير، له موقع هام في الساحة الثقافية السورية والعربية، ومحط اهتمام من قبل الباحثين والدارسين في الجامعات السورية، ومطبوعاته أكثر من 50 كتاباً في سورية والمغرب والعالم العربي، وموضوعاته مختلفة، وكان يكتب عموداً صحافياً متفرداً وقيّماً، وكان مؤثراً في محيطه، ومحباً للناس، ومواقفه منحازة للبسطاء والفقراء، إنه شخصية متميزة تغادرنا، لكنه ترك في الثقافة ما سيظل محطّ اهتمام الناس لا سيما في حلب وأهلها وناسها وطلابها وجامعاتها، ترك بصمته الخاصة جداً القابلة للقراءة في أي زمان ومكان.
الأكثر تنوعاً وغزارة وتأثيراً
وعن أهم ما يتميز به الراحل المبدع وليد إخلاصي، أجابنا الكاتب الفنان والمخرج المسرحي د.وانيس بندك: الأديب الكبير وليد إخلاصي يتميز بالأكثر تنوعأ وغزارة في سورية، وربما في الوطن العربي، ليس في مجال المسرح فحسب، بل أيضاً في مجالي الرواية والقصة، يتميز مسرح وليد إخلاص بالتجريب والبحث الدائم عن أشكال جديدة، فتارة يكتب المسرحية الكلاسيكية مثل “هذا النهر المجنون”، وأخرى يكتب المسرحية الطليعية مثل “الليلة نلعب”، وقد يستوحي موضوعه من الأساطير فيكتب مسرحية “مقام إبراهيم وصفية”، وفي كل عمل على حدة، نجده يعطي هذا الاتجاه أو ذاك حقه الكامل، أي أنه يخلص للتجربة التي يخوضها حتى النهاية، ويعالج إخلاصي في مسرحه بشكل عام قضية الإنسان الفرد أولأ، وتأثيره وتأثره بالمجتمع ثانيأ، ونلاحظ من خلال أعماله ذلك التماسك بين الخاص والعام، دون اللجوء إلى أية أفكار جاهزة، وهو بذلك يكشف زيف العلاقات الاجتماعية من خلال فضحه للنماذج التي تتستر وراء أقنعة خداعة، أو مناصب سياسية، وفي الجانب الآخر يتضامن مع الإنسان المضطهد والمظلوم مخترقأ كل التناقضات المتراكمة عبر التاريخ إلى الزمن المعاصر.
وأضاف: لقد أخرجت للأديب الكبير ثلاث مسرحيات وهي “من يقتل الأرملة” عام 1994، ومسرحية “رسالة التحقيق والتحقق” التي قدمتها بعنوان “رسالة التحقيق” عام 2003، ومسرحية “إطلاق النار من الخلف” عام 2010، وكلها كانت لصالح المسرح القومي في حلب، كما كتبت عنه أكثر من مقالة في الصحافة السورية والعربية، وشاركت في تكريمه أكثر من مرة، وأنا شخصياً حزين جداً لخسارتنا الكبيرة له، ليس لأنه فقط واحد من أهم كتاب المسرح والقصة والرواية في سورية والوطن العربي فحسب، بل لأنه تجمعني به صداقة شخصية وعائلية عزيزة علي كثيراً، كذلك لفقدان شخصيته الدمثة وروحه المرحة وحضوره البهي وبداهته وفطنته وسخريته اللاذعة النابعة من تواضعه وأصالته ووطنيته.
واختتم د.بندك: وليد إخلاص خسارة كبيرة للمسرح والأدب بشكل عام في سورية والوطن العربي..وداعاً أيها الجميل أبو خالد.
لا يكرر نفسه
وأكد د.أحمد زياد محبك رئيس الهيئة الإدارية لفرع حلب لاتحاد الكتاب العرب على تميز وليد إخلاصي كروائي وقاص وكاتب مسرحي مبدع ومجدد ومواكب للتطورات الفنية والثقافية والاجتماعية في سورية وفي الوطن العربي، وكل عمل من أعماله جديد في رؤيته وموضوعه وبنيته الفنية لا يكرر نفسه، وهو ذو رؤية نقدية عميقة ونظرة مستقبلية متفائلة، روحه مرحة ونفسه منفتحة على كل الأجيال والتجارب الحداثية، بل هو رائد الحداثة في الرواية، ورائد التجريبية في المسرح، كان له دور فاعل في الوسط الثقافي بنى أجيالاً من المثقفين المتنورين، وترك تأثيراً واضحاً في الحركة الأدبية ولاسيما في المسرح والرواية، سيبقى ذكره حياً، وستبقى أعماله تملك حضورها وتأثيرها، ولقد وضعت عن أدبه دراسات كثيرة لكن مؤلفاته ما تزال جديرة بالدرس.
كنوز أدبية
بينما وبألم واضح قال الفنان الممثل سمير الطويل: خسارة كبيرة للساحة الأدبية والفنية، إخلاصي أثرى الثقافة العربية بكنوز من القصص القصيرة والروايات الطويلة والمسرحيات، واختار الانحياز إلى الناس البسطاء والطبقات المسحوقة، وكان طيباً دمثاً، ولقد التقيته غير مرة في السنوات الأخيرة، فوجدته كما عهدناه دائماً متنور الفكر، محباً لوطنه ومدينته حلب التي تعيش في شرايينه، صحيح أنه نال العديد من الجوائز التكريمية والتقديرية، إلاّ أن أهم جائزة حصل عليها هي حب المسرحيين لأدبه وفنه وكتاباته.
وتابع: وليد اخلاصي وداعاً، كنت ومازلت رائداً من رواد المسرح السوري، وأحد دعاماته الأساسية رحمه الله وأسكنه فسيح جنات، وعند هذا الحدث الجلل لابد من الوداع لحقبة مميزة في تاريخ ثقافتنا، وداعاً..وليد إخلاصي الكاتب المسرحي الكبير وأحد أبرز رموز الثقافة السورية بعد عدد كبير من التأليف المسرحي والروائي والقصص والدراسات و الترجمات، وداعاً يا كبير، لروحك الرحمة والسلام.
روحه تطوف بين المكتبات والمسرح
وبدوره، رأى جابر الساجور مدير الثقافة بحلب أن وليد إخلاصي، أحد أهم كتاب سورية والوطن العربي في المنتصف الثاني من القرن العشرين، أتخذ منهجاً وأسلوباً أدبياً متميزاً عبّر من خلاله عن نبض الشارع، وأغنى المكتبة العربية بعشرات الأعمال الروائية والقصصية والمسرحية. إن الراحل الكبير كان ينقل آلام وأتراح الناس وأفراحهم بحكايا قدمت على خشبة المسارح، وعلى شاشة السينما، وشاشة التلفزيون، والتحية لروح رائد المسرح التجريبي ورائد الحداثة في الرواية والقصة الذي رحل جسداً وستبقى روحه تطوف بين المكتبات الثقافية وخشبة المسارح في مدينته حلب التي أحبها وأحبته.
بورتريه بالكلمات
وفضلت الأديبة ضياء قصبجي الحزينة جداً أيضاً، أن تجيبنا بطريقة “بورتريه كلامي” من خلال كتابها “أدباء في حياتي”، الذي خصت وليد إخلاصي بأحد عناوينه وهو “باب الجمر”: وليد إخلاصي عبير من الأدب المكثف، لون مزيج من الألوان، قلم حبره يحكي شتى الأمور، تراع فيفرحك لقاؤه لأنه يشعرك بالمعزة والأفة، يسلم بحرارة نفسه الممتلئة بالانفعالات، وتشعر أن الذكاء يكمن خلف زجاج نظارته الأبيض، نظراته تذهب هنا وهناك لتلتقط الأفمار الخاصة به، والتي يقولها بجرأة الواثق من نفسه وثقافته وقراءاته، دائماً، يلقي الطرائف مسربلة بحديث الممتع والشيق.
تداخلات الرمز واللا معقول
وأعرب محمد حجازي مدير المسرح القومي بحلب عن حزنه، قائلاً: وليد إخلاصي الكاتب المسرحي والروائي الذي أغنى المكتبة العربية وأضفى على المسرح السوري أناقة الكلمة النبيلة حيث كان منتجه الأدبي ذاخراً بكل الفكر الخلاق الذي كان له الفضل في تطور الفكر المسرحي والروائي في سورية، وأعماله الهامة ستبقى شاهداً على عظمة الفكر السوري.
أمّا عن أهم ما يميز تجربة إخلاصي؟ فأجاب: تتميز تجربته بالجمع بين الواقعي والغرائبي كما بين اليومي والتاريخي، وقدم كل ذلك بصورة إبداعية منفتحة ومتجددة، لأنه يسعى دائماً إلى التجديد والابتكار والتجريب في المسرح، وينتمي إلى الجيل المعاصِر من الكتّاب المسرحيين في سورية، ففي مسرحه نجد أنه تشرّب القديم في حزمه ووضوح رسالته، ونحا إلى الجديد مستفيداً من مراحل تطور المسرح كلها، وصولاً إلى البراعَة في الابتكار وطرق أبواب التجديد، والتفاوت في تقنيات الكتابة وتنوّع أساليبها الفنية، مما يجعل محاولة تصنيف إبداعه المسرحي أمراً صعباً ومهمة شاقة قد تختلف فيها آراء النقاد.
زأضاف: والرمز عند إخلاصي هو “حل وسط بين الواقعية والعبث”، كما أن التجريب يتيح له تجاوز الدراما التقليدية تارة بالخروج عليها أو المحافَظَة على بعض منها داخل العمل الواحد، وهو كثيراً “ما يتمسك بالعقل والتجارب الصادرة عنه” بدلاً من العاطفة والانفعال السطحي، ويبرز ذلك في المعالَجَة العقلية الهادئة، ويقسم النقاد مسرح إخلاصي إلى ثلاثة أقسام تتداخل الحدود فيما بينها، منها المرحلة الواقعية ومعالَجَة بعض الأمور الاجتماعية، ومنها مرحلة الاتجاه نحو الرمز حيث الرمز أساسي في مسرحه وقد يتكون من الأشخاص أو حتى الأشياء وقطع الديكور، وأحياناً، تصبح “المسرحية كلها رمزاً لفكرة”، كما يتداخل الرمز واللامعقول فيلعب القدر الأعمى دوراً بارزاً عندما تنهار بسببه الأحلام التي تريد القضاء على الأمراض الاجتماعية والمآسي الإنسانية، مثل الشر والفساد، مما يؤدي إلى استسلام العواطِف الإنسانية كالحب والصداقة مقابل الفساد الاجتماعي والظلم، وعليه، فإن الأعمال السردية والدرامية لوليد إخلاصي، تتنوع وتتسع لمختلف الأنواع والأنماط وهو في كل نوع منها ينطلق من تجربة متجددة وملتحمة بهموم الإنسان العربي.
ننتظره قرناً آخر
بينما أخبرنا محمد إبراهيم العبد الله رئيس تحرير مجلة الأدب العربي باللغة الإنجليزية الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب: فقدت اليوم سورية والوطن العربي فارساً من فرسان الكلمة، الكاتب والروائي والمسرحي وليد إخلاصي الذي أغنى المكتبة العربية بمؤلفاته الروائية والمسرحية التي ترجمت إلى معظم اللغات الحية، ولقد تشرفت كرئيس هيئة إدارية لفرع اتحاد الكتاب بحلب سابقاً، بزيارته في منزله منذ شهرين تقريباً، برفقة الدكتور فاروق أسليم عضو المكتب التنفيذي، والدكتور سعد الدين كليب، واستقبلنا كعادته بوجهه الباسم البشوش، وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث، وحدثنا عن تجربته الإبداعية في القص والمسرح في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بذاكرة متقدة، وأصر وقتها – رحمه الله – على أن أجلس بحانبه، وحدثته عن تجربتي في الترجمة، ولا يسعنا إلاّ القول: رحم الله الفقيد وليد إخلاصي الذي خسره المشهد الثقافي في سورية والوطن العربي، خسرنا قامة أدبية يصعب أن يأتي مثلها خلال قرن من الزمان.
أهم الأدباء المعاصرين
وبدوره، أكد محمد سمية رئيس دائرة حقوق المؤلف والحقوق المجاورة بمديرية الثقافة بحلب على أن وليد إخلاصي أحد أهم الأدباء العرب المعاصرين الذين رفعوا شأن الأدب العربي في العصر الحديث، وهو من أشهر رواد الرواية والقصة في سورية، ولد في لواء الإسكندرونة، وأمضى معظم حياته في حلب، وسعى لوضع بصمة بالغة الأهمية على الأدب العربي من خلال فنيات حداثية وتجريبية.