بين العربية والسّريانية.. جدلية اللغة السّابقة واللفظ الدّخيل
تظهر بين الفينة والأخرى دراسات تقول بأسبقية لغة على أخرى تاريخياً، ولعلّ مقارنة اللغة العربية بالسّريانية من أكثر هذه الدّراسات التي تشغل بال الباحثين عرباً ومستشرقين، يقول الدّكتور رفعت هزيم: اقترن مصطلح الآرامية بنشأة ممالك الآراميين في القرن العاشر قبل الميلاد، إذ ترك هؤلاء ومن تلاهم نقوشاً سمّاها الباحثون الآرامية القديمة ثمّ انتشرت الآرامية في زمن الآشوريين والبابليين والفرس من القرن السّابع إلى القرن الرّابع قبل الميلاد ولذا سمّيت في هذه المرحلة بآرامية الدولة، ويقول بعض الباحثين إنّ الآرامية والسّريانية مترادفين وذهبوا إلى أنّ اللغة السّريانية الآرامية نسبت إلى آرام وهو الابن الخامس لسام بن نوح ومن هنا كانت أكبر سنّاً من العربية، وبعد أن كانت في القرن الرابع عشر قبل الميلاد قبائل رُحّل في الصّحراء الواقعة غرب الفرات إذا بها تضحي اللغة الرّسمية لشعوب قبائل الشّرق الأوسط قاطبةً من فارس شرقاً إلى سورية غرباً ومن آشور شمالاً إلى فلسطين ومصر جنوباً، وينطبق هذا الوصف عند المتخصصين باللغات السّامية على آرامية الدّولة، أمّا مصطلح السّريانية فهو متأخر زمناً ولم يظهر قبل انتشار المسيحية وقد ختم بطريرك السّريان برصوم كتابه الألفاظ السّرياينة في المعاجم العربية بأربعة وثلاثين فهرساً لتبيان أصول الألفاظ التي ذكرها، أوّلها الألفاظ السّريانية البحتة التي دخلت العربية وعددها ثلاث مئة واثنان وخمسون وثانيها للألفاظ التي رجّح سريانيتها وعددها سبعة وعشرون، وثالثها الألفاظ التي رجّح آراميتها وعددها خمسة عشر والغريب أنّه سمّاها هنا آرامية بينما سمّاها في كتابه سريانية.
وخلال النّدوة التي قدّمها في مجمع اللغة العربية، قرأ هزيم بعضاً من بحثه المطوّل حول هذا الموضوع والذي جاء تحت عنوان: “المقارنة بين العربية والسّريانية”، مبيناً ما تطلّبه هذا البحث من منهج علمي دقيق ولا سيّما في الألفاظ الدّخيلة على العربية، يقول: الدّخيل في اللغة العربية من اللغات السّامية موضوع خاض فيه المتقدّمون فذكره أصحاب المعاجم وخصص له اللغويون فصولاً وصنّفوا فيه كتباً ثمّ اشتغل المحدثون ـمستشرقين وعرباًـ ويحتاج ما كتب في هذا المجال ـقديماً وحديثاًـ إلى تمحيص وتدقيق للوصول إلى نتائج تكون أقرب إلى الكمال، واقتضى منهج البحث تقسيمه إلى أربعة أقسام يشمل كلّ منها اللغة السّامية المأخوذ منها، أوّلها للآرامية ومعها السّريانية، وثانيها للأكادية ومعها السّومرية، وثالثها للعبرية، والرّابع للحبشية ومعها العربية الجنوبية، كما تطلّب المنهج توزيع مادّة البحث على أربع خطوات، أوّلها: ما ذكرته معاجم العربية في أصول اللفظ واشتقاقاته ودلالته، والثّانية: ما ورد من شواهده شعراً ونثراً في كتب التّراث، والثّالثة: آراء المحدثين ـمستشرقين وعرباًـ في اللفظ وإيراد شواهده في السّاميات وغيرها، أمّا الأخيرة فهي رأي الباحث، مضيفاً: ينبغي أن يتنبّه البحث في الدّخيل بين لغة سامية وإحدى أخواتها إلى ثلاثة أمور مهمّة، أوّلها: أن انتماء مجموعة من اللغات إلى فصيلة لغوية واحدة يعني اشتراك تلك اللغات في قدرٍ كبيرٍ من الألفاظ يسمّى في الفصيلة السّامية بـ”السّامي المشترك” وقد توارثته من أصل واحد هو السّامية الأولى أو الأمّ، لذلك يجب التّفريق بين الألفاظ السّامية المشتركة والسّامية الموروثة، والثّاني: أنّ قاعدة اللاحق يأخذ من السّابق ليست مطردة فثمّة ألفاظ أخذتها الأكادية مثلاً وهي أسبق اللغات السّامية زمناً، والثّالث: أنّ بعض السّمي المشترك ليس سامياً بل من الدّخيل غير السّامي فثمّة ألفاظ أخذتها الأكادية مثلاً من السّومرية ثمّ انتقلت إلى أخواتها السّاميات.
وخلافاً لمراجع أخرى، لا يذكر هزيم في بحثه الكثير من الألفاظ الدّخيلة على العربية، يوضّح: سيلاحظ القارئ قلّة الألفاظ التي أخذتها العربية من أخواتها هنا ويرجع ذلك إلى صعوبة الجزم في هذه المسألة لأنّ كثيراً ممّا يعدّه الباحثون دخيلاً من الأكادية لأنّها أقدم لغات الفصيلة السّامية أو من الآرامية والسّريانية لأنّهما عندهم أقدم من العربية، ولذا لم يرد في هذا البحث سوى الألفاظ التي تؤكّد القرائن اللغوية والتّاريخية والثّقافية أنّ العربية أخذتها من إحدى أخواتها كما هي الحال في أسماء الشّهور بالتّقويم الميلادي أو في الألفاظ الدّينية التي ترجّح تلك القرائن أخذها، نحو: أتون وإسفين وإكليل وترجمان..
ويخلص الدّكتور هزيم في بحثه إلى أنّ الدّخيل في العربية من الآرامية والسّريانية يفوق نظيره من أخواتهما السّامية، ويردّ ذلك إلى أمور عدّة، أوّلها العيش المشترك والحوار بين النّاطقين بهما زمناً طويلاً سبق العصر الجاهلي واستمرّ في العصور الإسلامية، وثانيها أنّ السريانية كانت لغة المسيحية ولذا أخذت العربية منها معظم الألفاظ الكنسية، وثالثها كثرة المترجمين السّريان من الإغريقية والسّريانية في العصر العباسي، مضيفاً: كذلك أدّى التّقارب بين اللغتين نحواً وصرفاً ونطقاً وسهولة الأخذ منهما شفاهاً وكتابةً إلى التّبادل بينهما، ولذا سنجد أنّ السّريانية أخذت مجموعةً من الألفاظ العربية، ولقد اعتمد جمهور الباحثين على مجموعة من الأدّلة لإثبات أنّ اللفظ دخيل من السّريانية مثل أن يكون من الألفاظ الدّينية المستعملة في اليهودية والمسيحية وأن يكون من ألفاظ الحضارة لأنّهم يزعمون أنّ العرب القدماء كانواً بدواَ ولذا أخذوا هذه الألفاظ عن الآراميين أو بني إسرائيل المتحضرين وكأنهم يجعلون العرب آنذاك في وضع يشبه وضع شعوب العالم الثّالث اليوم.
نجوى صليبه