الإعلام الأمريكي يتباهى بشن حرب معلومات مضللة
سمر سامي السمارة
شهدت الآونة الأخيرة تقارير لوسائل الإعلام الأمريكية تعترف صراحةً بأن أجهزة الاستخبارات الأمريكية تقوم عن قصد ببث معلومات مضللة في وسائل الإعلام.
خلال اجتماع في البيت الأبيض في الثمانينيات، قال مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية السابق وليام ج كيسي للرئيس رونالد ريغان: “سنعرف متى يكتمل برنامج المعلومات المضلّلة لدينا عندما يصبح كل شيء يعتقده الجمهور الأمريكي خاطئاً”.
اعتبر البعض أن هذه الملاحظة ليست ذات قيمة كبيرة، ومع ذلك، أكد آخرون أن لها دلالات شريرة متعمدة تعتبر مقياس السيطرة على الفكر العام هدفاً محدداً. وإذا ما أخذنا بالاعتبار الكيفية التي يتكشّف بها الصراع في أوكرانيا والعلاقات الغربية مع روسيا والطريقة التي تنقل بها وسائل الإعلام الغربية عن ذلك، تبدو كلمات كيسي بمثابة تحذير مسبق قاتم.
وقد شهد الأسبوع الماضي ادّعاءات مثيرة عما وصف بأنه “مذبحة بوتشا”، وكان مصدر هذه الادعاءات هو الجيش الأوكراني المرتبط بكتيبة “آزوف” النازية التي تمّ تدريبها وتسليحها من قبل الولايات المتحدة وجيش الناتو الآخر على مدار العقد الماضي.
لم تحاول وسائل الإعلام الغربية التحقق من الادعاءات المثيرة الموجّهة ضد روسيا، وعلى العكس، فقد تم بثها بحماسة ما أدى إلى المزيد من العقوبات الغربية على روسيا، وإمداد أوكرانيا بالأسلحة لدعم نظام زيلنسكي. وما يثير المزيد من القلق أن المعلومات المقدمة لإدانة القوات الروسية موضع شك، حيث تأكد أن الفظائع المزعومة وقعت بعد عدة أيام من انسحاب القوات الروسية من المنطقة.
أكدت موسكو أن عمليات القتل نفذتها كتيبة آزوف المدعومة من الغرب في محاولة لإلقاء اللوم على روسيا. ومع ذلك، وصفت وسائل الإعلام الغربية التأكيدات الروسية بأنها “دعاية كرملين”. كما تمّ تعريض سمعة المحلّلين الغربيين ومصادر وسائل الإعلام البديلة للتشويه، أو فرض الرقابة عليهم لتجرئهم على تحدي الرواية المزعومة لـ “الفظائع” الروسية. وقد تمّ حظر سكوت ريتر، الضابط السابق في سلاح مشاة البحرية الأمريكية، مؤقتاً من وسائل التواصل الاجتماعي بوصفه واحداً من هذه الأصوات المستقلة.
ومن المفارقات أن هذا الأسبوع شهد أيضاً تقارير في وسائل الإعلام الأمريكية تعترف صراحةً بأن أجهزة الاستخبارات الأمريكية تقوم عن عمد ببث معلومات مضللة في وسائل الإعلام. وبعيداً عن الشعور بالخجل أو الندم، فإن وكالات الاستخبارات الأمريكية ووسائل الإعلام تتباهى بـ “التقدم” على روسيا في “حرب المعلومات”.
وتتضمن بعض قصص التضليل التي تمّ الاعتراف بها، مزاعم عن تخطيط روسيا لاستخدام أسلحة كيماوية في أوكرانيا، بالإضافة إلى قصص أخرى تدّعي أنه تمّ تضليل الرئيس بوتين من قبل جنرالاته العسكريين بشأن عدم إحراز تقدّم في الحرب، وأن موسكو تسعى للحصول على إمدادات أسلحة من الصين للحرب في أوكرانيا. ويتمّ الآن الاعتراف بجميع هذه القصص على أنها كاذبة، فوسائل الإعلام الأمريكية تكذب على الجمهور وتعترف بذلك علانية، حتى أنها تدّعي أنه جيد لأنه باسم حرب المعلومات ضد روسيا.
وفي قصة تضليل أخرى ادّعت وزارة الخارجية الأمريكية في شباط الماضي، بأن روسيا كانت تستعد لشنّ هجمات تحت شعار كاذب لتكون بمثابة ذريعة لغزو أوكرانيا. وعندما تحدى الصحفيون المتحدث باسم وزارة الخارجية نيد برايس في ذلك الوقت، لتقديم أدلة ملموسة، أشار بشكل خبيث إلى أنهم يروجون للدعاية ضد روسيا، وقد اتضح الآن أن وزارة الخارجية كانت تروّج لأكاذيب زرعتها أجهزة استخباراتها.
لم يكن أي من هذا التواطؤ المروع بين وكالات الأخبار التي تدّعي أنها مستقلة وأجهزة الاستخبارات السرية مفاجئاً، فقد تفاخر مدير وكالة الاستخبارات المركزية السابق مايك بومبيو علناً بـ”كذب وخداع الوكالة طوال الوقت” وكأنه وسام شرف!.
هنا لابد لنا من التذكير، بأنه ومنذ عقود كانت عملية “الطائر المحاكي” برنامجاً طموحاً لوكالة الاستخبارات المركزية لاختراق جميع وسائل الإعلام الإخبارية الأمريكية بمحررين ومراسلين مطيعين باعتبارهم موارد يتمّ الاعتماد عليها.
وفي دراسة استقصائية أجراها مراسل “واشنطن بوست” كارل بيرنشتاين، في عام 1977، حول فضيحة “ووترغيت”، ذكر أنه تمّ تجنيد مئات الصحف ومقدّمي البرامج في جميع أنحاء الولايات المتحدة لخدمة وكالة الاستخبارات المركزية. وقد تضمنت المنافذ صحيفة “نيويورك تايمز” التي يفترض أنها رفيعة المستوى، وصولاً إلى الصحف الإقليمية في المناطق الريفية. وبشكل مضحك، أصبح بيرنشتاين مدافعاً عن فضيحة “روسيا غيت” التي لفقتها الاستخبارات الأمريكية لتوريط الرئيس السابق دونالد ترامب باعتباره عميلاً روسياً.
ومن المصادر المهمّة الأخرى، كان عميل وكالة الاستخبارات المركزية السابق، جون ستوكويل، الذي أدلى بشهادات غزيرة وألف كتباً عن كيفية قيام وكالة الاستخبارات المركزية بإدارة حملات تضليل إعلامي على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم.
في أوروبا، كتب الصحفي والناشر الألماني الشهير أودو أولفكوت شرحاً شاملاً عن الطريقة التي تتبعها وكالة الاستخبارات المركزية ووكالات الاستخبارات الغربية الأخرى بتجنيد طواقم لها في جميع وسائل الإعلام الأوروبية الكبرى ليكونوا بمثابة عيون وآذان وأفواه. ومن المعروف أيضاً أن هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” المملوكة للدولة، كانت، وربما لا تزال، تخضع للتدقيق من قبل جهاز الأمن البريطاني “إم 15”.
وعلى الرغم من أن مثل هذه الاكتشافات كانت معروفة ومعلنة، فقد كانت دائماً مجرد كلام لتجنّب تضخيم الفضيحة لمهنة تقدم نفسها كوصي على المصلحة العامة المستقلة، وحرية التعبير والفكر، وانتقاد السلطة السياسية، وجميع أنواع الجوائز النبيلة الأخرى.
ولطالما كانت وسائل الإعلام الغربية مدانة بالترويج لمعلومات مضللة شائنة في خدمة مؤسساتها العسكرية والأمنية، وربما كانت خدعة أسلحة الدمار الشامل التي أدت إلى حرب الإبادة الجماعية في العراق عام 2003 هي الحضيض بين عدد لا يُحصى من الأحداث المشينة الأخرى، فضلاً عن حادثة خليج تونكين الوهمي، الكذبة التي أدّت إلى حرب فيتنام.
وكان قصف الناتو لسورية ينذر بمزاعم كاذبة واسعة النطاق لوسائل الإعلام الغربية عن فظائع الأسلحة الكيماوية التي تمّ تنفيذها بالفعل من قبل وكلاء تغيير النظام المدعومين من الناتو.
في أوكرانيا، عجّل تسليح الناتو للنظام النازي الذي كان يهاجم الروس في دونباس، بالحرب، ومنذ اندلاع الحرب في شباط، أي بعد ثماني سنوات من الاستفزازات، اتهمت وسائل الإعلام الغربية الجيش الروسي بقصف المستشفيات والمسارح، والآن بإعدام المدنيين بلا رحمة.
هذا من وسائل الإعلام نفسها التي تعترف الآن صراحة بأنها قامت بنشر معلومات مضللة، ويبدو أنها لا تخجل من ذلك. في الواقع، تتفاخر هذه الوسائل بدورها في الخداع باعتباره شيئاً نبيلاً. إن وسائل الإعلام هذه متواطئة في تأجيج الصراع والحرب، وتتمثل مهمتها في حشو الشعوب بالجهل والشوفينية من أجل تعزيز الصناعات والاقتصادات الداعمة للحرب.