الصين… تحول استراتيجي
ريا خوري
قامت الصين مؤخراً بالتوقيع على اتفاقية أمنية مع جزر سليمان الواقعة في جنوب المحيط الهادئ، والتي تتألف من أكثر من 990 جزيرة، ومجموع مساحتها 28450 كم2، وعاصمتها هونيارا، تمهيداً لإقامة قاعدة جوية وبرية وبحرية عسكرية فيها، وذلك على بعد نحو ألف وسبعمائة كيلومتر عن السواحل الأسترالية.
هذه الاتفاقية تعدّ تحولاً استراتيجياً مهماً وكبيراً بالنسبة للصين، وبالنسبة الى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في المنطقة، وخصوصاً نيوزيلندا وأستراليا، لأن هذه هي القاعدة العسكرية الثانية الهامة والقوية للصين خارج أراضيها بعد قاعدة جيبوتي التي أقامتها عام 2017، عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، حيث الممر الرئيسي والاستراتيجي للتجارة العالمية.
ومن خلال قاعدة جزر سليمان، تضع الصين موطئ قدم لها في هذا الموقع الإستراتيجي لمواجهة الحصار الذي تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى فرضه عليها من خلال التحالفات العسكرية التي تقيمها مع دول المنطقة، وخصوصاً تحالف (أوكوس) الذي يضم الولايات المتحدة الأمريكية مع أستراليا وبريطانيا، ثم تحالف (كواد) الذي يضم الولايات المتحدة الأمريكية مع أستراليا والهند واليابان، إضافةً إلى ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية من تعزيز لوجودها العسكري في المنطقة، وتحديداً البحري في جنوب شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان، وذلك في سياق الاستراتيجية التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما والتي عرفت بــ “استراتيجية المحيطين الهندي والهادئ”، وكذلك في إطار استراتيجية “العودة إلى آسيا” والتخفيف من عبء أزمات الشرق الأوسط وإعادة التوازن لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، أي التصدي للنفوذ الصيني المتزايد ومواجهته في المنطقة من خلال تحالفات سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية متعددة الأطراف، وغيرها من المجالات المتعددة.
ما لحق بالولايات المتحدة من هزائم عديدة جعلها تحاول من جديد في عهد الرئيس جو بايدن استرجاع موقعها من خلال استراتيجيات تعتمد على القوة الطاغية والحرب الاقتصادية المفتوحة على كل من يعارض سياساتها. لذلك إن المتابع لاستراتيجيات وخطط الولايات المتحدة الأمريكية يجد مدى سعي قادتها لتحقيق نفوذ واسع وقوي في العالم وتحديداً في منطقة المحيط الهادئ، فقد نشرت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون في نهاية عام 2011 مقالاً بعنوان ” قرن المحيط الهادئ للولايات المتحدة الأمريكية”، أكدت فيه أن مستقبل السياسة العالمية تحدده آسيا، وعلى هذا الأساس وضعت الولايات المتحدة الأمريكية استراتيجيات بعيدة المدى تقوم على الاستحواذ على المنطقة والسيطرة عليها في مواجهة الصين التي تسير بخطى حثيثة في مختلف الميادين وتحديداً في الميدان الاقتصادي، لتثبيت قدميها في النظام العالمي، كي تكون شريكاً قوياً وفاعلاً فيه، وهو أمر تسعى الولايات المتحدة إلى منعه من خلال التحالفات الإقليمية المتعددة والعقوبات الاقتصادية الصارمة والقاسية.
ولأن جمهورية الصين الشعبية بدورها تدرك الأهداف الأمريكية الخطيرة وتتابع مسار خطوات ونهج إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تجاهها، وتعرف نقاط قوتها وضعفها بدقة، فإنها تضع خطط واستراتيجيات مواجهتها بصمت، ومن دون ضجيج، ودون استخدام لأي بروبوغندا إعلامية كالتي تستخدمها الولايات المتحدة وحلفائها كما هو الحال في الاتفاق الأمني المفاجئ مع القيادة في هونيارا عاصمة جزر سليمان، حيث سيكون للجيش الصيني ولأول مرة وجوده العسكري العملياتي في منطقة المحيط الهادئ وهو وجود نوعي وإستراتيجي، لأن الصين بذلك تفك إحدى حلقات الحصار التي فرضتها عليها الولايات المتحدة الأمريكية، بل وتتقدم نحو تخوم النفوذ والسيطرة الأمريكية التقليدية .
لقد أشارت العديد من تقارير الاستخبارات الأمريكية السرية إلى أن الصين عملت وتعمل جاهدة لتعزيز وتقوية نفوذها العسكري بشكل دائم في المحيط الأطلسي، فقد استطاعت بناء قاعدة عسكرية ضخمة على أراضي دولة صغيرة واقعة في وسط إفريقيا، وهي غينيا الاستوائية حيث تمكنت السفن الحربية الصينية من دعم وحماية تلك القاعدة التي ما زالت تتوسع بشكل ملحوظ.
في المقابل، إن حالة الفزع والقلق التي تعيشها الولايات المتحدة الأمريكية من تواجد القوات الصينية في هذا الموقع الجيواستراتيجي دفع نائب مستشار الأمن القومي الأميركي جون فينر لزيارة غينيا الاستوائية في تشرين الأول الماضي في مهمة خاصة تهدف لإقناع الرئيس تيودورو أوبيانغ نغويما مباسوغو برفض مبادرات الصين ووقف توسع القاعدة العسكرية .
لقد أكدت العديد من التقارير والدراسات التي نشرها مركز “أفريقيا للدراسات الإستراتيجية” الممول من البنتاغون، أن نموذج الصين في بناء القواعد العسكرية مختلف جداً عن الولايات المتحدة الأمريكية، فهي تجمع بين عناصر أمنية ومدنية، وبالتالي إن ما تقوم به الصين هو عمل استراتيجي من شأنه أن يفك إحدى حلقات حصار الولايات المتحدة الأمريكية ، بل التقدم نحو تخوم النفوذ والسيطرة الأمريكية التقليدية.