أفراح الموتى في العيد
غالية خوجة
نهديكم أطيب التهاني بمناسبة عيد الفطر السعيد الذي ينتظره الموتى أيضاً لتفرح أرواحهم بذكراهم في هذه الفانية، فنشعر بأننا فرحون أيضاً لأننا مارسنا طقوسنا الروحية، وقمنا بواجبنا تجاههم من قراءة الفاتحة وما تيسّر من القرآن الكريم، وقدّمنا الصدقات، والتقينا هناك بينهم، لنشعر بأن من في القبور يجمعنا حتى بعد الغياب الجسدي، فيجتمع الأقارب والأباعد والناس الذين نعرفهم ولا نعرفهم معاً.
وتمتاز سوريتنا الحبيبة، بممارسة هذه الطقوس في العيد، ومنها حلب التي اكتظت شوارعها بالسيارات والدراجات النارية والهوائية والتكاسي، وهي تقلّ الناس إلى المقابر فجر أول يوم من أيام العيد.
حقاً، إنه لمشهد مهيب وأنت تذهب لمعايدة الأرواح التي فارقتك، مؤمناً بقضاء الله وقدره، داعياً للموتى بالرحمة، وللأحياء بالرحمة، مصاباً بقشعريرة الخشوع والتبتّل والصفاء، فتشعر بأن الأرواح تبتسم مع الكلمات المقدسات، بينما شواهد القبور فتذكّرك بيوم القيامة، فترى الفناء قاب فناء أو أدنى، وترى كيف يزهر البقاء بالأعمال الصالحات، فتراجع نفسك لتعدها بأن تكون أفضل مما سبق، أكثر طيبة ومحبة ورحمة وخشية وتعاوناً وإخلاصاً وبناء في الإنسان والأوطان.
ومضى ذاك الفجر معنا في الطريق المزدحم بزائري الموتى، وتخيّلتُ كيف تمدّ أمي يديها لاحتضاني رغم حجارة القبر التي تفصل بيننا، وكأنني سمعت أنفاسها الممتزجة مع حنانها الأبدي، ورأيت ابتسامتها حين كنت أمازحها، وسمعت كلماتها، وأسمعتها حكاياتي، وشكوت لها، وما زال صوتها ضوءاً يهديني كلما احترتُ بهذه الفانية.
ورأيت أبي يمسح دمعاتي، تماماً، كما مسحها قبل وفاته بقليل، ثم مسح شعره بكفه المبللة، وحضنني مواسياً، وكأنه قال: لا تحزني، جميعنا سنعبر هذه الطريق، وليكن العبور أخضرَ الرائحة، أبيضَ الأثر.
كانت أرواح الموتى وكأنها سندس معلق على الشواهد، مبتهج بالقادمين الذين يحيّون جميع من طوتهم الأرض، ويقرؤون الفاتحة، وهذه من آداب زيارة القبور، والتي من الممكن أن نغرس أو نفرش بعض النباتات التي نحملها لقبور أحبّتنا على قبور أخرى لتكون صدقة مع ما يمكن تقديمه للأحياء الحاضرين في هذا المكان، راجين من الله أن يتقبّل منا ومنكم الأعمال الطيبات ويعفو عن السيئات.
ومن جماليات المشهد الحزين السعيد أن الأطفال يزورون المقابر ليعملوا الخير، ويعتادوا على هذا الطقس الذي يكون جماعياً في مثل هذه المناسبات، وأن شرطة المرور حاضرة برقيّ لتنظيم هذا الحدث وأمثاله، وأن الخير ما زال مزهراً بين الناس.
في الأعياد نشعر أن الأحياء ينتشرون في المقابر لترتاح ضمائرهم، ونتوقع أنهم يستمدون من هذه الزيارات الحكمة المؤكدة على الفناء المادي والبقاء الروحي من خلال آثار الخير كلاماً وفعلاً، موقنين بالآية الكريمة: “كل من عليها فانٍ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام”.
أمّا من الجانب الآخر للزيارة، فإنك ترى كيف تزدهر تجارة المقابر والمشاعر، فتسمع نداء الباعة من بعض الأطفال والشباب وهم يبيعون بضائعهم، منادين: “فرّح ميتك بألفي ليرة”، ويقصد بشرائك لوردة يبيعها بسعر 2000 ل.س!.
كما أنك تلمس ما هو مؤذٍ وغير مناسب، خصوصاً، هؤلاء الذين يستغلون المقابر للتسول بكافة الوسائل، ابتداء من الاستعطاف، ولا انتهاء ببيع الماء، عبوراً ببيع الورود والنباتات بأسعار مضاعفة، ولا انتهاءً بشعورك ببعض المتاجرين بالأشجار التي تزين الشوارع، وكيف اقتطعوها بغفلة، لتصبح أغصاناً وأعواداً للبيع، ثم ما إن تبتاعها وتضعها على قبر ميتك رحمه الله، حتى يعود الجشعون بعد مغادرتك، لينسلوها من القبر، ويعيدون بيعها لأناس آخرين، وهكذا دواليك!.