الكذب لا يزال مستمراً رغم جبل الفضائح.. حرب شاملة بكل معنى الكلمة
مازن المغربي
يتأكد يوماً بعد يوم أن الحملة الإعلامية التي شنتها الولايات المتحدة ضد شعب سورية ودولته هي حرب شاملة بكل معنى الكلمة. كانت حملة مدروسة استهدفت تشويه كل جوانب الحياة في بلادنا دون مراعاة الحقائق، وبعيداً عن الالتزام بأي ضوابط مهنية أو أخلاقية. تم الاعتماد على لونين فقط: الأبيض والأسود. اندرج ضمن نطاق اللون الأبيض كل ما تعلق بنشاط المجموعات الإرهابية والمعارضة المرتبطة بأجهزة استخبارات خارجية، في حين تم تخصيص اللون الأسود لكل نشاطات الدولة السورية، ولمبادرات شخصيات المعارضة الوطنية الرافضة للتدخل الخارجي في الأزمة. لم يبال أحد بصدق المعلومات لأن هذا هو آخر ما يشغل بال وسائل الإعلام الكبرى المملوكة كلياً من قبل الطغمة المالية المتحكمة بمفاصل أجهزة الدولة في كل البلدان الغربية، واستمر الكذب رغم جبل الفضائح.
كان ثمة جديد حاضر لكل مرحلة، ولم يهتم أحد باعتراف مراسل دير شبيغل، كلاس ريليتيوس، بأنه أعد تقريره حول أطفال درعا وهو قابع في فندق في أوروبا، وأنه جمع تبرعات من القراء بحجة دعم أطفال سورية لكن يبدو إنه عجز عن إيصالها فاحتفظ بها لنفسه. اعترف الرجل بتزوير أربعة عشر تقريرا صحافيا اعتمدتها إدارة المجلة الرصينة ونال على أساسها جائزة أفضل مراسل على مدى أربع سنوات متتالية، لكن تم حرمانه من الجائزة الأخيرة بعد أن تسببت اعترافاته، في كانون الأول 2018، بأكبر فضيحة إعلامية. وقبل ذلك، تداولت وسائل الإعلام حكاية صبية وجدت جثتها مقطوعة الرأس في مشرحة المشفى الوطني في حمص لكن أمها تعرفت عليها من ثيابها. طبعاً لم يهتم أحد بتفصيل مبررات دخول الأم المفجوعة إلى المشرحة لنتبين بعد فترة أن الصبية تركت بيت عائلتها بكامل إرادتها وتزوجت ولجأت إلى الإعلام الوطني لشرح قصتها لأنها لم ترد أن يتم تسجيل وفاتها في السجلات المدنية.
لذا لا يمكن استغراب الحملة الإعلامية الضارية التي اعتمدت على تقرير أعدته “سيدة” سورية مزعومة بالتعاون مع باحث من أصل تركي. تم نشر صور ومقاطع فيديو: رجل يُطلق النار بكل هدوء على ضحاياه، لنراه في مقطع آخر يقود جرافة قيل إنه استخدمها لحفر قبر جماعي. لم يتوقف أحد عند سؤال بسيط مفاده: ما هي مبررات وجود جرافة مع عناصر حاجز تفتيش؟ ألم يكن هناك سائق مخصص لقيادة الجرافة؟ كانت صورة الحفرة بعيدة كل البعد عن الحفر التي يتم تنفيذها بالجرافات، إذ لا بد من وجود طريق عبرته الجرافة لتنفيذ مهمتها وإخراج كتل الاسفلت والحجارة والتراب. ثم كان المشهد المثير للغرابة المتمثل في عملية حرق الجثث.. يستحيل عملياً حرق الجثث بهذه الطريقة. يمكن لأي راغب في المعلومات الرجوع إلى الإنترنت ليرى كيفية عمل محارق الجثث إذ يتطلب تحويل جثة واحدة إلى رماد تعريضها لحرارة تتجاوز 850 درجة لمدة ساعة ونصف. أما تقرير الغارديان فمليء بمتناقضات عجيبة منافية لأي منطق. ادعى التقرير وقوع مجزرة في حي التضامن في دمشق، في السادس عشر من نيسان 2013، اعتماداً على نتائج أبحاث إمرة سورية غادرت البلاد بسبب موقفها المعارض للدولة، تدعى أنصار شحود حائزة على درجة الماجستير في دراسات ما يسمى “الهولوكوست”، وعملت باحثة في جامعة استوكهولم بالتعاون مع زميل في تلك الجامعة التقت به عام 2016، وقررا البحث عن أدلة على وقوع مجازر في منطقة سيطرة الحكومة السورية. أي أن الباحثين الأكاديميين الجادين حسما نتيجة أبحاثهما قبل البدء بها، في حين أن منهج البحث يتطلب وضع فرضية ثم تحليل معطياتها واستعراض أبحاث مشابهة وتحديد منهج بحث يفترض عرض كل جوانب الموضوع دون تبني أحكام مسبقة.
بادرت الباحثة، وفق ما ورد في التقرير، إلى التواصل مع ضباط أمن في مواقع حساسة وتمكنت من إقناع قرابة خمسمئة ضابط وموظف رسمي بأنها من أنصار الدولة واستطاعت بهذه الطريقة جمع معلومات تفصيلية حول المجزرة المزعومة. استخدمت اسماً مستعاراً أوحى بأنها أوروبية ونجحت في متابعة نشاطات “مئتي ضابط أمن” اعترف لها بعضهم بالمشاركة في عمليات قتل. وهنا لا بد من أن يخطر على البال سؤال حول تمكنها من التواصل مع عدد كبير من الضباط الذين يجيدون لغة أجنبية، ولديهم وقت فراغ ليقضوه على الشبكة. كما ادعت إنها تبادلت النكات معهم وأنهم حدثوها عن جرائمهم بدافع الرغبة في “إراحة نفوسهم المتعبة”. ادعى زميلها في البحث أن بعض الضباط تعلق بها، ونحن نتحدث عن ضباط أمن، وليس عن صبية مراهقين. واستمرت في عملها هذا على مدى عامين على حساب صحتها وحياتها الاجتماعية، إذ لا بد من هذه المنكهات لإبراز بطولتها. وفي شهر آذار من عام 2021، اتصل بها الرجل الذي ظهر في مقطع الفيديو.
طبعاً، لا حاجة للوقوف عند تفصيل أن “الغارديان” زعمت أن التقرير أُنجز عام 2019، فهذه جزئية يمكن تمريرها. لكن توقيت نشر هذا التقرير يشير بوضوح إلى من يقف خلفه، إذ لا يُمكن لعاقل تصديق أن باحثين تمكنا من متابعة نشاطات مئات الضباط على شبكات التواصل الاجتماعي لأن هذا عمل لا يمكن إلا لجهاز أمني متطور القيام به، لكن طرح الموضوع بوصفه من إنجاز سيدة سورية من عائلة محددة لم يعدُ كونه عملية إخراج بهدف توليد صدمة لدى المتلقين، لأن هذه هي قاعدة عمل الصحافة الصفراء، أي إغراق المتلقي بسيل من المعلومات الصادمة المدعمة بصور وتصريحات لخبراء. ولا بد من ربط الحملة الإعلامية الغربية الحالية ضد سورية بالصراع الدائر في أوكرانيا، وبمؤشرات انفراج في العلاقات بين سورية وبعض البلدان العربية. فقد تمكن الرئيس الروسي من فرض إيقاعه في الصراع الذي تخوضه بلاده للدفاع عن ثرواتها وعن أمن حدودها بعد تخلي واشنطن عن كل تعهداتها بعد توسيع حلف الناتو شرقاً. وكان لا بد من شيطنة بوتين وتسليط الضوء على تحالفاته على المستوى العالمي. صحيح أن واشنطن وأتباعها ضخوا مليارات الدولارات، التي اقتطعت من أموال دافعي الضرائب، بهدف إطالة عمر الصراع لكن في واقع الأمر تم التخلي عن الرئيس الأوكراني في حين أثبتت موسكو تمسكها بحلفائها في كل الظروف. وكان من الواضح أن واشنطن صُدمت بالتقارب بين سورية ودولة الإمارات العربية المتحدة، لذا كان لا بد من اختلاق حدث يعيد شحن التوترات داخل سورية، ويعيق استمرار مسار انفراج العلاقات مع البلدان العربية.