الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الإبداع وهذا الخراب!

عبد الكريم النّاعم

زارني صديق يجمعني به أكثر من حقل من حقول الحياة والروح، في زمن قلّت فيه الزيارات، وكادت تختفي فيه العلاقات الاجتماعيّة لدى معظم شرائحنا المجتمعيّة لأسباب لا تخفى على مَن يكون نصف نبيه، حتى ليلمس الإنسان لمس الحياة، لا لمس اليد فقط، أنّ نضارة التواصل هي بأزمنة العمار لا بأزمنة الدم، والخوف، والفقر والحاجة، فحين يكون الإنسان مشغولاً لدرجة الإنهاك في مواجهة مطالب (العيش)، ولا أقول (الحياة)!! فمن الطبيعي أن تُغلَق آفاق العطاء الإبداعي الذي يحتاج حاجة ضرورية لوجود أبسط ما يُقيم دعائم الحياة، بشقّيها المادي والروحي، والجانب الروحي يكاد يختفي في مثل هذه الأحوال إلاّ باب الدّعاء، والرغبة المنكسرة.

شرّقنا وغرّبنا في الحديث ألماً، وتذكّراً، ومُكاشفة جراح، وكان ممّا طرحتُه عليه، وأنا أثق بعمق رؤاه،: “كيف ترى واقع الإبداع مع عشريّة الخراب”..

قال: “سأتكلّم عمّا يصل إلينا، أمّا الذي لا يصلنا فذلك شيء آخر”.

قلت: “هل تعتقد بوجود إبداعات لا تصل إلينا، ونحن في زمن التواصل الاجتماعي”؟!.

قال: “في كلّ مرحلة ثمّة إبداعات، أو ما يُقارب الإبداع، يبقى طيّ الكتمان، وقد عايشنا أنا وأنت من الشعراء الذين كتبوا قصائد، للأسف أنّها كانت تُقرأ في مجالسها الخاصّة، ولا يمكن طبعها، وفي هذا المجال أقول إنّ في تاريخنا الأدبي بعامّة ما يشبه هذا، ولكنّه وصلَنا، أمّا ما ذكرتُه لك فما أدري ما إذا كان سيصل ذات يوم، وتحضرني الآن شخصيّة البديري الحلاّق ويومياته عن دمشق، والتي طُبعت بعد سنين طويلة، وما أدري كم بديريّ يمكن أن يكون في هذا الزمن، وقد لا يكون، وإذا وُجد فعسى أن يحمل موضوعيّة البديري، وصدق نقله، وما كتبه البديري قيمته فيما رصده، لا في قيمته الإبداعيّة الفنيّة، فقد كتب بلغة المنطوق الشعبي في تلك الأيام”.

قلت: “كيف ترى حضور الإبداع الذي نتحدّث عنه، حاليّاً، واستشرافاً”؟.

قال: “قبل أن أجيب، بحسب رؤيتي وظنّي، لا بدّ من التذكير بأنّ الإبداع بعامّة يكون رائداً، ورائياً، ومشيراً، ودليلاً في أزمنة الأمن والهدوء، وبعض الاطمئنان، أمّا في مثل أزمنتنا، فهي بمفرزاتها تكاد تسبق الخيال، وسأُجمل بقدر المستطاع.

الموسيقى والغناء، الموسيقى لم يكن أمرها على خير كما نرجو حتى قبل هذا الخراب، أما الغناء فأنت تعرف حجم الهبوط الغنائي الذي عانينا منه، حتى لكأنّه كان إنذاراً، بوصولنا إلى حيث نحن.

أمّا الرسم فهو شديد الخصوصيّة في تعبيره، وفي النوعية المُواكبة له، ويحتاج الأمر بعض الانتظار لمعرفة ما مدى انعكاس هذا الخراب على اللوحة، أو في المنحوتة.

عوالم الرواية والقصة لم يكتمل مشهدها، لإصدار حكم لا حيف فيه، ثمّة روايات وقصص حملتْ ما حملتْ، ورغم أنّ ميدانهما رحباً لاعتماده الأساسي على الجملة النثرية السرديّة، ويضاف إلى ذلك زخم الأحداث التي ارتسمت على الأرض، وبعضها ما يكاد يصدّق لوحشيّته، وانحطاط أفعاله إلى درجة لا تُعرَف في عوالم الحيوان، وهذه مادة خصبة، وأفق واسع جدّاً للعاملين في هذا الميدان،.. رغم هذا فالذي صدر لا يرقى كمّاً ونوعاً لمواكبة ما حدث، ولعلّ ما سيأتي يكون أشدّ اختماراً، وأعمق حساسية وأوفى تعبيراً.

أبو الفنون كما يسمونه المسرح، أعتقد أنّه الأقلّ حضوراً في هذا الميدان، أمّا الشعر، وربما كان هنا مربط أكثر من فرس، ولعلّ حضوره كان الأبرز حراكاً في هذا السياق، فقد تراكم ما يدّعي أنّه شعر، لدرجة أنّ الرديء قد أبعد الجيّد المتألّق، والأمور كلّها يا صديقي مترعة بالشجون، أقول هذا رغم مرور عشر سنوات”.

aaalnaem@gmail.com