“مؤتمر بروكسل” .. والسادس من أيار والتاسع منه
أحمد حسن
في السادس من أيار يحتفي السوريون كل عام بذكرى شهدائهم. في التاسع منه يحتفل العالم، أو للدقة جزء منه، بالانتصار على النازية، وللوهلة الأولى يمكن القول إن لا شيء يجمع بين الحدثين، وأن مصادفتهما معاً في شهر واحد لا معنى لها، خاصة وأن بينهما فترة زمنية طويلة تصل إلى نحو ثمانية وعشرين عاماً كاملة من القرن الماضي، كانت حافلة بالأحداث والحروب التي تباينت فيها، وإثرها، مصائر الدول واختلفت سيرورة حياتها وتطورها.
بيد أن بعض التدقيق في الأمر يوضح أن هناك ما يجمعهما، وربما كان أبرزه ذلك المعنى المشترك الكامن في كل منهما وانعكاساته المتعددة، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، ومنها أيضاً ذلك المغزى الخفي في تقدّم عيد الشهداء، سواء بالأيام أم السنين، على عيد الانتصار، باعتبار أنهم في كل مكان وزمان صناع حقيقيون للثاني، وأبعد من ذلك يبدو أن بعض ما يحدث اليوم، كما بعض آثار الماضي ومفارقاته -التي لم تزل تطبع عالمنا بطابعه المأساوي الحالي- تجمع بينهما أيضاً.
ولنلاحظ، “جمال باشا”، سفاح اليوم السوري المشهود، كان يمثل السلطنة العثمانية التي كانت حينها متحالفة، مع الإمبراطورية الألمانية تحت اسم “المحور”، في “العالمية الأولى”، ضد بقية أوروبا و”العالم”، أي “الحلفاء”. كلاهما، السلطنة والإمبراطورية، خسرا هذه الحرب، وإذا كانت الهزيمة أنهت الأولى وقسّمتها لتنجب تركيا الحالية، فإن هزيمة الثانية رفعت أسهم النازية فيها لتحاول مرة جديدة، بعد نحو ثلاثة عقود، مناطحة العالم كله وكادت أن تنجح لولا خطأ اتجاهها نحو الروس واصطدامها بجدار “ستالينغراد” الأسطوري.
ما يعنينا مما سبق أن ذلك “اليوم السوري” كان نتاجاً بمعنى ما لتلك الحرب والأطماع الدولية المتشابكة فيها وخلالها والتي لم يكن يعني السوريون منها سوى الاستقلال الوطني الناجز. احتفالنا به خلال العقد الأخير حدث، ويحدث اليوم، في ظل حرب أخرى تنهل من الأطماع الدولية ذاتها، وتقريباً للدول ذاتها – مع مفارقة عودة اسطوانة الخلافة العثمانية المشروخة تحت راية خليفة مزيف وفي لحظة عالمية وإقليمية متوترة- والتي لا يعني السوريين منها، مرة جديدة، سوى الاستقلال الوطني الناجز، لذلك عادت صور الشهداء تتصدر شوارع بلادهم من جديد.
هنا تبرز مفارقة معبرة تتمثل في أن بعض هذه الدول المشاركة في الحرب على سورية، مثل “بروكسل” وشقيقاتها، والتي “اختبرت” نتائج حرب الآخرين على أراضيها، سواء في “العالمية الأولى” أو “الثانية”، اختارت موعداً يقع بين ذكرى شهدائنا في “الأولى” وذكرى “نصرهم” على النازية في “الثانية” لتزيد من أوار الحرب التي أشعلتها في بلادنا، ولكن تحت يافطات إنسانية مزيفة، وتلك هي الحقيقة المضمرة خلف رسالة “مؤتمر بروكسل” العلنية باستبعاد روسيا عن المشاركة في النسخة الحالية منه بعد أن سجل على نفسه وزر استبعاده الدائم للحكومة السورية -المعنية الأولى فيه كما هو مفترض- من “نسخه” السابقة كلها.
وفيما تبدو حجته لاستبعاد دمشق معبّرة عن هدف أطرافه الحقيقي من هذه الحرب، فإن استبعاد موسكو بحجة عدم وجود “مصلحة حقيقية لها في المساهمة في إحلال السلام في العالم ومساعدة ضحايا الصراع”، كما قال “جوزيب بوريل”، ليست سوى تعبير عن رغبة “القتلة” بـ”الانزلاق أكثر فأكثر إلى التسييس المتهوّر للقضايا الإنسانية”، أي إدامة انفرادهم بالضحية.
بالمحصلة، السادس من أيار عام 1917 كان نذيراً، ولو بعيداً جداً، بالتاسع من أيار عام 1945، لكن “مؤتمر بروكسل” التاسع من أيار عام 2022 يوضح أن أحداً لم يتعلم شيئاً، ضحايا النازية يحاولون ربط الحرب السورية بالحرب الأوكرانية وبالتالي تأجيل حلها وإطالة معاناة الشعب السوري، والمساهمة في إبقاء بؤر التوتر العالمية مشتعلة، فالحرب نشاط اقتصادي مجز أيضاً، و”المساعدات” المزعومة، التي لا يصل منها سوى القليل القليل ولـ”جهات” محددة، هي جزء مما تسرقه هذه الدول ذاتها من ثروات سورية ولقمة عيش شعبها.
ذلك كان دأب أوروبا في حربيها “العالميتين”، وذلك هو مغزى “مؤتمر بروكسل” الحالي، وذلك هو أيضاً الرابط بين أحداث ثلاثة رغم الفارق الزمني الكبير بينها.