جمعهما الإبداع وبوح الرحيل
سلوى عباس
قواسم مشتركة جمعت المبدعين سعد الله ونوس وفواز الساجر، لكن القاسم الأهم بين هذين المبدعين أنهما رحلا في ربيع عطائهما، فكان شهر أيار موعداً للرحيل وكأنهما ينفذان وعداً اتفقا عليه، واليوم تحلّ ذكراهما والمسرح يعيش أزمته كجزء من أزمة الوطن التي أرخت ظلالها السوداء على الحياة.
لم يكن التقاء الساجر وونوس عابراً، بل كان مشروع كلّ واحد منهما يكمل الآخر، حيث من وجهة نظر الراحل ونوس أن الساجر فتح باباً جديداً للإخراج المسرحي في سورية، وأن المسرح مع وجود مخرج مثله سيخطّ تاريخاً جديداً للإخراج المسرحي يكون بمثابة إبداع جديد للنص، ولعلّ ما جعل رؤية الساجر المسرحية تعطي منطلقاً آخر هو إيمانه بالممثل وما يملكه من قدرات من الضروري فك قيودها، وخلق مبدع حرّ على الخشبة، فجهد كثيراً على تدريبهم على المسرح كفن يقدّم بأبهى أحلامه، وفي عام 1977 أسّس الساجر مع ونوس فرقة المسرح التجريبي بهدف تقديم مسرح وثائقي يطرح قضايا المجتمع ومعاناته ويعمل على حلّها وتغييرها، مسرح مختلف يؤمن بالكلمة والفعل فكان مسرحاً وجودياً فلسفياً، وكانت بداية عروضه مع مسرحية “يوميات مجنون”. وعن هذه المرحلة تحدث ونوس عن حديث جرى بينه وبين الساجر سأله فيه عن العمل في التجريب، حيث المسرح كان ما زال فكرة في أذهانهما والناس ينتظرون طريقة تنفيذ فكرتهما، فأظهر الساجر تخوّفه من عدم نجاح العرض لأنهما يعملان بلا ضمانات، ومع كل الرهانات غامرا بمشروعهما وتابعا مسيرة الحلم الذي رهنا أرواحهما لأجله، مع أن ونوس قال في الكلمة التي ألقاها في يوم المسرح العالمي قبل رحيله “المسرح فن مدوّن على الريح”، فهل كانت شهادته حينها تنبؤاً بالحال الذي وصل إليه المسرح الآن.
في عام 1979 عاد الساجر وقدّم مسرحية “رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة”، اقتباس سعد الله ونوس، وكانت نظرة الساجر للمسرح تختلف عن باقي المسرحيين له إذ يقول: “أنا أفهم المسرح أنه يغيّر ولا يتغيّر، وأرفض المسرح الذي يقدم قيماً أخلاقية ثابتة من منظور تبريدي.. المسرح المطلوب في وطننا هو المسرح الذي يؤكد قيماً اجتماعية وأفكاراً جديدة تدفع بوعي الناس إلى الأمام”.
وعن تجربته في المسرح التجريبي قال الساجر: “منذ بداية نشاطي المسرحي، رغم قصر التجربة كان هاجسي الأساسي هو الوصول إلى المتفرج، مستفيداً من طبيعة تكوينه وخصوصيته الشرقية، ولذلك بدأت أختبر معلوماتي وقناعاتي المسرحية، وقد اضطررت للتخلي عن الكثير من هذه القناعات بسبب بعدها عن متفرجنا رغم أكاديميتها وثبات صحتها”.
لقد كان رحيل الساجر باكراً صدمة لأهله وأصدقائه وطلابه ولكل عشاق المسرح، حيث كانت الآمال معلقة عليه وعلى من يهجسون بفن المسرح علّه ينهض من كبوته، وقد وصف رفيق رحلته وحلمه سعد الله ونوس أن موته كان أشبه بالخيانة، حيث وجد فيه نصفه المسرحي الآخر رغم اختلافهما في كثير من الآراء، ويستذكر النقاشات التي كانت تدور بينهما فيقول: “كان فواز يلحّ على مفهوم الحب، فيما ألححت على مفهوم الحرية، وما كان المفهومان يتعارضان، بل يتكاملان في حوار انقطع فجأة”.
هكذا كانت علاقة المبدعين الساجر وونوس اللذين عاشا الحلم فترة قصيرة وغادرا الحياة على أمل أن يستمر مشروعهما مع طلابهما الذين حمّلوهم الكثير من أحلامهم، وها نحن اليوم نعيش ذكرى رحيل قامتين إبداعيتين كان المسرح هاجس روحيها الذي أمدّهما بالحياة، وها هو حال المسرح بعد غيابهما قد طرأت عليه الكثير من التغيّرات والرؤى، سواء من حيث نشوء فرق مسرحية جديدة بدماء شابة تقدم تجاربها حسب رؤيتها ووجهة نظرها، أو من خلال إعادة عرض أعمال مسرحية لمسرحيين سوريين كبار تركت أعمالهم بصمتها التي تمنحها هوية تبقيها متجدّدة عبر الزمن.