الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

ألا يعي الظلام.. ظلمته!

حسـن حميد

بعد مئة سنة من المعرفة لابدّ للعارف من أن يكون عارفاً بحق، وبعد مئة سنة من الأذيات والقتل والبطش والمجازر والعربدة التي لا تعرف قيماً ولا نبلاً، لا بدّ للقاتل من أن يدرك ويعي أنّه قاتل وظالم، يقف بوجه الحياة والنور.

بعد مئة سنة من هذا الظلموت الإسرائيلي بات أهل الحق الذين طُردوا وشُرّدوا وقُتلوا وقاتلوا يعرفون أنّهم أهل الحق وثقافتهم هي ثقافة النور والتجلّي، وإن كانت أعشابهم لا تصير نبالاً، ومياههم لا تصير حجارة، أو صخوراً، وما ظنّوه دروعاً ما كان دروعاً ولو في لحظة واحدة، لأنّ ثقافة اسمها ثقافة الخذلان تشيع في أماكن واسعة من العالم، مثلما تشيع في نفوس كثيرة لم تعرف معنى الكبرياء يوماً أو لحظةً!.

امتداد هذا الزمن من المواجهة ما بين النور والظلمة ليس مصادفة، أو فاصلة زمنية طويلة وجارحة، وإنما هو وعي بأنّ الصراع بين النور والظلمة هو حياة من نوع آخر، حياة تمثّل الصراع ما بين الأبطال النهاريين والوحوش التي جعلت الظلمة دارة تعيش فيها، وتدور فيها، وتتباهى بها.

الكيانة الإسرائيلية، ومنذ أن أسّسها الغرب المتوحّش، وهي تؤمن بالقوّة التي تؤمن بها وحوش الظلمة، منذ جعلت الغرب، معظم دول الغرب، تعيش في ثقافة ظلامية، ثقافة قاصرة عن النطق بالحق، أو الحديث عن العدالة، بعد أن ألجمتها بالخوف والعقوبات والمصائر السود. الغرب هم من يعرفون الإسرائيليين الذين احتلوا الأرض الفلسطينية، وشرّدوا أهلها، وسجنوا من تبقّى فوق ترابها، لكنّهم لا ينطقون بالحق بعدما دفنهم الخوف في قيعان سحيقة، لهذا تتالت المجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين من أجل إبادتهم مثلما فعل أهل الغرب بأهل الأمريكيتين الذين سمّوهم بالهنود الحمر أو بالبشر النحاسيين، ولكنّ الغرب والإسرائيليين يعرفون الأساطير، وحكايات الميثولوجيا الإغريقية، وغير الإغريقية، وما مرّ فيها من قصص وأخبار ونبوءات. وكلّها كانت ذات خواتيم لها علاقة بالنور لا بالظلمة، أو خواتيم لها علاقة بمفهوم البطولة لا بمفهوم التوحّش والبطش.

إنّهم يعرفون (كرونوس) والد آلهة الإغريق الذي تزوّج بأخته (ريا) بعد أن قتل أباه (أورانوس) وهو كبير الآلهة وأوّلها. والذي تنبّأ بأنّ ابناً لابنه (كرونوس) سيقتله مثلما قتله، لذلك ابتلع (كرونوس) أبناءه (هيرا، ديميترا، وهسينا، وبوسيدون، وهاديس)، فغضبت (ريا) أم الأولاد، لذلك توارت حين وضعت ابنها (زيوس)، وصنعت له مهداً وعلّقته في غصن شجرة زيتون، وعادت تحتضن صخرة مغطاة بالثياب فابتلعها (كرونوس). أمّا زيوس فقد عهدت به (ريا) إلى أسرة راعي غنم لتربيته مقابل أن تمنع الذئاب من افتراس الأغنام، وحين يكبر (زيوس) تأتي به أمه (ريا) ليكون ساقي (كرونوس)، كيما تتحقق النبوءة فيقتله لأنّه يمثّل الظلمة والتوحّش والبطش والدموية.

ترى ألا يعي من يقتل الأطفال ويدمّر البيوت، ويقطع الطرق، ويطارد الناس في مدارسهم، ومشافيهم، وبيوتهم، وحقولهم.. ويسجنهم، ويكتب تاريخه الدموي بالمباهاة التامّة.. أنّه زائلٌ مثل (كرونوس) الذي ابتلع أولاده، ثم وفي لحظة واحدة تقيّأهم، وكانوا أحياءً لأنّ المظلوم لا يموت.

ألا يعي هذا القاتل كم هو يشبه (كرونوس)، وأنّ لحظة النورانية قادمة لتمحو الظلمة أياً كانت مساحتها، وأياً كانت شدّتها.. فالنور هو الحياة، ولا حياة من دون نور.

Hasanhamid55@yahoo.com