الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

طِباع

عبد الكريم النّاعم

قال له صديقه شاكياً وهو يشير بكلتا يديه وبعينيه وبكل ملامح وجهه: يا رجل، لدينا جار ما يكاد ينقطع الصراخ العالي من بيته، حتى صار اسمه بيننا “الجاعورة”، ولم تُجدِ كلّ المحاولات المباشرة وغير المباشرة، حتى يئسنا، ولكنّ هذا لا يعني أنّنا مرتاحون، فأنت قد يصلك الصراخ وأنت في عزّ النوم، ولقد ورث أبناؤه هذا فهم طوال النهار في صخب، وصراخ، فماذا نفعل”؟!.

أجابه: “وهل تركتم وسيلة إلاّ وطرقتم بابها، ولم تصلوا إلى نتيجة”؟

قال: “بالضبط”..

أجابه: “ما عليكم إلاّ التأقلم أو الرحيل، فهذا طبْع فيه، وهو عاجز عن السيطرة عليه، لأنّه لا يحسّ بمقدار أذاه للآخرين، كما أنّه، فيما يبدو، ليس من النوع الذي يراجع نفسه، أو يسألها عن شيء فهو يتصرّف فقط، وهذا كلّ شيء”.

قال: “ألا يمكن التحكّم بالطباع”؟

أجابه: “الطباع تولد مع الإنسان، فهي جزء من التكوين الإنساني، وهي تختلف حدّة ورقّة بين شخص وآخر، ولقد قيل قديماً في هذا الباب ما معناه إنّ الشجاعة والجبن والكرم والبخل تولد مع الإنسان، ومن العسير جداً على بخيل أن تجعله يتصرّف كما يتصرّف الكريم، لأنّك تطلب منه ما ليس في طاقته، نعم قد يتشبّه البعض تشبّهاً فيظهرون التكارم الذي تسخو به نفوسهم بعد مجاهدة، وتردّد، فيقدّم نتفة من أمر ما، ولا يفرّط بها إلاّ للوصول إلى غاية يكون فيها من النفع ما يسهّل عليه سكرات الكَرَم”.

قال مقاطعاً: “ويبدو أنّ البيئة غائبة عن التأثير في ذلك، فأنا أعرف أخوين لأبٍ وأمّ واحدة، تربّيا في بيت واحد، أحدهما على درجة كبيرة من البخل تذكّرك ببخلاء الجاحظ، والثاني تستطيع القول إنّ أخلاق حاتم الطائيّ قد تبِعَتْه إلى هذا الزمن”.

أجاب: “هذا على درجة كبيرة من المصداقيّة، وقد توقّف بعض المفكّرين عند هذا الأمر فوقفوا حيارى في تفسير ذلك، ولم يتوصّلوا إلى نتيجة مُقنعة، حتى لكأنّ ذلك ملحَق بصفحات أسرار الربوبيّة، ولا شكّ أنّ لبعض العقائد في العالم رؤى وآفاقاً يقدّمونها في هذا المجال، فهو شاهد حيّ ومستمر على مسألة التفاوت في الناس، في الطباع، كما في الجمال والقبح، وكما في غيرها من أمور يمكن تعدادها”.

قال: “هل لسنّ القوانين فائدة”؟

أجاب: “الدول تستطيع أن تسنّ القوانين الناظمة لشؤون الحياة، وقد فعلت ذلك الدول المتقدّمة، فأنت لا تسمع فيها ضجيجاً، ولا أصوات زمامير السيارات، وتمنع كلّ ما يؤذي الآخر، وبذلك تضبط بعض المساحات القادرة عليها، وقد نجحت في ذلك نجاحات باهرة، أمّا الطباع الشخصية كسرعة الانفعال، وشدّة التوتّرات المتعدّدة الدوافع، والكرم والبخل، فتلك مما لا تخصّ الشأن العام، وهم في شغل عنها، ولكنّ تطوّر علم النفس، بمدارسه، قد فتح أفقاً قد يبدو نافعاً في بعض المساحات، كالقلق، والتوتّر، والخوف، والتردّد، وما يمكن أن يقع ضمن هذا الحقل، فهناك الجلسات النفسيّة، سواء في علم النفس الفرويدي، أو في علم نفس الأعماق المنسوب إلى يونغ، وجميعها قد تساعد في التخفيف، وربّما شفي البعض شفاء تاماً، وهذا ليس تغييراً في الطباع بل تحوّل بها من موقع إلى موقع، فالقلق قد لا يزول ولكنه يبدو أخفّ ضغطاً على النفس.

واسمح أن أعرّج عند هذه النقطة على موضوع الإيمان، فهو يشكّل أساساً متيناً في مواجهة الكثير ممّا يثير القلق والخوف، ولست أعني الإيمان الأعمى الذي لا بصيرة فيه، كما لا أعني أن نركن إلى كلّ ما حولنا، فقديماً قال سيد الرسل (ص): “من رأى منكم منكراً فليقوّمه..”.

aaalnaem@gmail.com