مجلة البعث الأسبوعية

الأدوية النفسية بين شركات الأدوية والسوق السوداء.. “البعث الأسبوعية” تعرض مخالفة صريحة لإحدى الصيدليات تتاجر بالمرضى..!.

البعث الأسبوعية – طلال الزعبي

يعاني أصحاب الأمراض المزمنة، وخاصة النفسية والعصبية، كثيراً في سبيل تأمين الأدوية التي يحتاجون إليها للعلاج، فكثير من هذه الأدوية إما مفقود، وإما غير متوفر ربما بشكل متعمّد لترك الباب مفتوحاً للسوق السوداء، حيث إن هناك أصنافاً من الأدوية رغم أن أغلبها يصنّع في سورية لا يمكن الحصول عليها حتى بوجود وصفة طبية، ويخضع المريض في كثير من الأحيان للابتزاز للحصول على هذا الدواء.

أسعار قياسية

من هذه الأدوية مثلاً الصنف الدوائي “كارباتيك” الذي يعدّ دواء أساسياً لمرضى الصرع، فهذا الدواء لم يكن موجوداً في الصيدليات في الفترة السابقة، وقد وصل إلى أسعار قياسية في صيدليات السوق السوداء حيث تم بيعه في إحدى الصيدليات بمبلغ 19500 بحجة أن الدواء غير متوفر ويتم فرض السعر من خلال مستودعات الأدوية، أو من خلال تحميل بعض الأصناف الدوائية الأخرى غير الرائجة أو غير المطلوبة وحتى أدوات التجميل، وبالتالي تتم تغطية أسعار الأدوية الكاسدة برفع سعر هذه الأصناف الضرورية، الأمر الذي يرفع السعر إلى هذه الأسعار الخيالية، علماً أن سعر هذا الدواء فعلياً يتراوح بين 2800 و3300 ليرة سورية بشكل نظامي.

استطلاع

“البعث الأسبوعية” وقفت على هذه الظاهرة في عدد من الصيدليات واستطلعت آراء بعض الصيادلة الذين قالوا: إنهم مستعدون لشرح جميع الأسباب المتعلقة بارتفاع أسعار الدواء، ولكنهم رفضوا أن تذكر أسماؤهم في هذا الاستطلاع، حيث أكد معظمهم أن ارتفاع أسعار الدواء تقف خلفه بالدرجة الأولى مستودعات الأدوية التي تقوم بتحميل أصناف كاسدة من الدواء على الأدوية المطلوبة، وبالتالي يجد الصيدلي نفسه بين أمرين إما رفض شراء الدواء وبالتالي حرمان المرضى منه، وإما القبول به ولكن بسعر يتناسب مع “التكلفة الحقيقية” بعد تحميل أسعار الأدوية الكاسدة عليه، وبعض هؤلاء الصيادلة أكد أنه محجم نهائياً عن شراء هذه الأدوية من مندوبي الشركات الطبية لأنه يرفض ابتزاز المرضى في حاجاتهم الأساسية، أو لأن الأدوية النفسية لها استخدامات أخرى حيث يستخدمها متعاطو المخدّرات، وهذا ربما يعرّضهم إلى تهجّم هؤلاء للحصول على الدواء المخدّر الذي لا يُصرف إلا بوصفة طبية نظامية، ومنهم من يخشى التعرّض للمساءلة إذا ما وقع الدواء بأيدي متعاطي المخدّرات، ووصل الأمر إلى فرع مكافحة المخدّرات، وفي اعتقاده أن النقابة لا تؤمّن له الحماية الكافية من المساءلة، بينما قالت إحدى الصيدلانيات إنه لا مشكلة لديها ما دام الدواء قد وصل إليها بفواتير نظامية وتم صرفه بموجب وصفة طبية، وعند الجرد لن تخشى شيئاً ما دامت قد تصرّفت وفق القانون.

ادعاء كاذب

وقد حصلت”البعث الأسبوعية” على وصفة طبية لمريض نفسي تم صرفها من إحدى الصيدليات الشهيرة في دمشق بمبلغ 39000 ليرة سورية، وقد تمّت مناقشتها بالوصفة هاتفياً بعد أن حصلنا على هاتف الصيدلية من الطبيب النفسي الذي تبرّأ من الموضوع، وأحالنا إليها، حيث قالت بعد علمها أننا جهة إعلامية: إنه لابد من وجود خطأ في الموضوع لأن الوصفة يجب ألا تبقى في يد المريض، ووعدت بإعادة فرق المبلغ الذي تجاوز حسب أكثر الصيدليات التي سألناها عشرين ألف ليرة.

ثم إننا قمنا فيما بعد بالحصول على وصفة أخرى للمريض نفسه وذهبنا إلى الصيدلية ذاتها وطلبنا صرفها، فتجاوز سعر الدواءين الأساسيين فيها مبلغ 45000 ليرة سورية، عندها كشفنا هويتنا للصيدلانية، فراحت تدّعي أن هذه الأدوية غير متوفرة في السوق، وأنها تضطر لشرائها من السوق السوداء، وأن أحد هذه الأدوية يتم تهريبه عن طريق بعثات السياحة الدينية، بينما تحصل على الآخر الذي يحمل ختم وزارة الصحة بعد تحميل مجموعة من الأدوية الكاسدة عليه، فتقوم الصيدلانية بالتبرّع بها لجمعية حفظ النعمة على حدّ قولها وتحمّل سعرها على الدواء الرئيسي، بمعنى أنها تعطي باليد اليمنى وتأخذ باليد اليسرى، فضلاً عن أنها أقحمت سعر البنزين والمازوت وتكلفة إصلاح سيارتها الخاصة في سعر الدواء، وقالت تعقيباً: إنها غير مستعدة لصرف وصفة طبية يكون مربحها فقط مئة أو مئتي ليرة سورية، علماً أن الهامش الموضوع لسعر الدواء حسب وزارة الصحة هامشٌ مجزٍ ولا ينبغي البحث عن طرق ملتوية لتأمين الربح.

البديل موجود

المهم أننا تركنا الصيدلية وقلنا إننا عاجزون عن شراء هذا الدواء بسعره الحالي وتوجّهنا إلى صيدلية تبعد نحو مئتي متر فقط، فكان أن اشترينا واحداً من الأدوية بثلث المبلغ المطلوب من الصيدلية المستهدفة، والدواء الآخر حصلنا على بديله الوطني وهو لا يقل جودة عن المستورد وليس المهرّب كما ادّعت، الأمر الذي دفعنا للذهاب إلى مديرية صحة دمشق مباشرة بإحدى الوصفتين، لأننا لم نقم طبعاً بتسليم الوصفة التي تم صرفها من الصيدلانية بسعر السوق السوداء، وهناك قابلنا الدكتور محمد سامر شحرور مدير صحة دمشق الذي أطلعناه على الحالة ووعد بمعالجة الموضوع بالطرق القانونية عبر اللجنة التفتيشية، بعد أن قام بتصوير الوصفة التي رفضت الصيدلانية طبعاً تفقيطها لأنها صُرفت بشكل غير قانوني.

شروط

بعد ذلك توجّهنا إلى الصيدلية المركزية، وطلبنا صرف الدواء فقالت الصيدلانية: إن الأدوية المستهدفة غير متوفرة ولا يقوم مخزن نقابة الصيادلة بتزويدنا بها، الأمر الذي دفعنا إلى التوجّه بالسؤال إلى الدكتور عصام مرعشلي رئيس فرع نقابة صيادلة ريف دمشق الذي قال: إن للدواء النفسي مجموعة من الشروط والقيود التي تتحكم بطريقة صرفه، إذ لا بد بداية من وجود وصفة طبية نظامية من طبيب مختص مسجّل لدى وزارة الصحة، ولا يمكن صرف الدواء عبر القصاصة الورقية التي قد يستخدمها بعض الأطباء، بل يجب أن تكون وصفة طبية نظامية عليها شعار نقابة الأطباء، كما أن بعض الشركات الدوائية لديها وكلاء خاصون يشرفون على توزيع الأدوية، وهذا إلى حدّ ما يتحكّم بخريطة توزيع الدواء، حيث إن الأطباء النفسيين غير موجودين بكثرة في الريف، وهذا ربما يبرّر وجود الدواء النفسي في المدينة وعدم توفّره في لدى جميع صيدليات الريف.

لا وجود للتحميل

ولدى سؤالنا الدكتور مرعشلي عن موضوع التحميل، بين أنه من الممكن أنه حدث من البعض، أما الآن فلا وجود لموضوع التحميل بالنسبة للأدوية لأن السبب الذي أدّى إلى ذلك قد انتفى، بعد الجهود التي بذلتها وزارة الصحة في مسألة توفير الدواء.

وتابع مرعشلي: المطلوب أولاً من الصيدلاني الذي يتعرّض لموضوع تحميل الأدوية أن يقوم بالإبلاغ عن الشركة التي تقوم بهذه الممارسة، وهذا الإبلاغ ضروري لكبح هذه الظاهرة إن وجدت، وإذا امتنع الجميع عن الشراء بهذه الطريقة، فإن الشركة الدوائية ستضطر لتوفيره بالطرق النظامية.

محل ثقة

ورفض الدكتور مرعشلي أن يكون بين الصيادلة من يتعمّد المتاجرة بحاجة المرضى، معتبراً أن جميع الصيادلة لديه محل ثقة، ولا ينبغي الاعتداد أبداً بالحالات الفردية التي تمّت الإشارة إليها، لأن وجود مثل هذه الحالات لا ينفي أن المهنة مهنة إنسانية، وأن الصيادلة يبذلون كل ما في وسعهم لتأمين الدواء للمرضى بسعره ومواصفاته النظامية.

الدكتورمرعشليأكد في المحصّلة أن ما قامت به الصيدلانية المستهدفة مخالف للقانون، إذ لا يجوز بيع الدواء الوطني بسعر مخالف لسعره الرسمي، كما لا يجوز الادّعاء أن نوعاً معيّناً من الدواء حصلت عليه بطرق ملتوية، لذلك تبرّر بيعه بأضعاف سعره الحقيقي، مؤكداً ضرورة تقديم شكوى خطية إلى فرع النقابة المختص  التي تستخدم الطرق القانونية لكبح هذه الظواهر التي تعدّ مخالفة مسلكية تعرّض المخالف لمجلس تأديبي، يتقرّر بموجبه نوع العقوبة.

أخيراً

يذكر أن الأمراض النفسية بشكل عام اتسع انتشارها على خلفية الأزمة التي تعيشها سورية منذ عام 2011 وخاصة في المناطق التي خضعت لسيطرة الجماعات الإرهابية المسلحة، حيث تعرض الناس لظروف نفسية قاهرة نتيجة استخدامهم دروعا بشرية من هذه الجماعات، فضلا عن الجوع والحصار ومشاهد القتل والدمار.

فإذا كان توزع الأمراض النفسية على خريطة البلاد قبل الأزمة يخضع لظروف موضوعية، فإن هذا الأمر ازداد طردا مع توسع الأزمة وتشعبها ، حيث يمكن أن نقول: إن الأمراض النفسية تضاعفت بشكل ملحوظ، وخاصة عند الأشخاص الذين تعرضوا لظروف الأزمة وتداعياتها المباشرة.

وإذا أضفنا الى كل هذه الظروف تناقص عدد الأطباء النفسيين خلال فترة الأزمة بشكل واضح نتيجة انعدام الأمن وصعوبة العمل والبحث عن لقمة العيش، فإن هذا الأمر ساهم بالضرورة في زيادة عدد المرضى النفسيين على خلفية صعوبة وسائل التداوي

وهذا الأمر انسحب أيضاً على موضوع توفير الأدوية، إذ ساهمت الأزمة وظروف الحصار الخانق المفروض على البلاد من الدول الغربية في الحد من القدرة على الحصول على المادة الدوائية الفعالة التي يتم استيرادها من الدول الغربية، وبالتالي اجتمعت مجموعة من العوامل التي أدت الى ندرة الأدوية النفسية، الأمر الذي ساهم بالمحصلة في غلاء أسعارها واحتكارها من فئة ضيقة من شركات الأدوية التي وجد بعضها في ظروف الأزمة مناخا جيدا لاحتكار الدواء والتحكم بأسعاره ما أدى الى صناعة سوق سوداء تتحكم بسعر الدواء النفسي، شأنه في ذلك شأن أدوية الأمراض المزمنة الأخرى.