“الإفطار الأخير”.. من الواقعية السحرية إلى العبث!
رغم أن المخرج السينمائي عبد اللطيف عبد الحميد يعتبر المخرج الأبرز في مسيرة السينما السورية، كماً ونوعاً، حيث قدّم لها أكثر من عشرة أفلام حصد عنها جوائز عديدة في مهرجانات عربية ودولية عديدة، إلا أنه لم يتمكّن من تجاوز السمة النمطية الغارقة في الأنا الذاتية للمخرج المؤلف، والتي شكّلت ملامح شخوصه المحورية في أغلب تلك الأفلام، ومن جانب آخر لم يحافظ على الاتجاه المتصاعد أو الأفقي حتى للخط البياني لسوية أفلامه بشكل عام، بل يمكنني الجزم كمتابع ومعاصر لبدايات عبد الحميد أنه يصرّ على الانسياق وراء إغراءات الذاتي أكثر من العام منذ باكورته الساحرة “ليالي ابن آوى” التي أعقبها بتحفته السينمائية الأخرى “رسائل شفهية”، قبل أن ينحرف الخط نزولاً مع فيلم “صعود المطر” الذي لم يلق الإقبال الجماهيري المعهود، ليعود ويحلّق من جديد مع فيلمه “نسيم الروح”، و”ما يطلبه المستمعون” إلى حدّ ما، لتأخذ أفلامه التالية سمة الواقعية السحرية الفضفاضة، ولاسيما في “عزف منفرد” و”طريق النحل” و”أنا وأنت وأمي وأبي”، حيث يدخل في فلسفة الأزمة والاشتغال على متناقضات النسيج الاجتماعي السوري ليصل إلى فيلمه الأخير “الإفطار الأخير” الذي بدأت عروضه التجارية في المدن السورية، ومنها عرضه في صالة قصر الثقافة بحمص.
هذا الفيلم الذي يشتغل فيه مؤلفاً ومخرجاً على فلسفة الغياب انطلاقاً من مقولة “أصعب أنواع الرحيل من رحل عنك ولم يرحل منك”، هذه المقولة التي حاول من خلالها تسليط الضوء على الحالة النفسية والاجتماعية لمن فقد عزيزاً وحبيباً في هذه الحرب البشعة التي أحدثت شرخاً في حياة الكثير من السوريين، لكنه يتناول الموضوع بأسلوب هزلي أفقده قيمته الواقعية السحرية المقنعة، وبأسلوب يعيدنا إلى فيلم “معالي الوزير” لأحمد زكي الذي راح يبحث عن مكان ينام فيه دون أن تلاحقه كوابيسه المستمرة.
وهنا في هذا الفيلم نتابع شخصية سامي (عبد المنعم عمايري) خياط المسؤولين الذي فقد زوجته (كندا حنا) بقذيفة هاون سقطت على منزله، لكن طيفها ظلّ يلاحقه ويحرمه من النوم أينما ذهب، حتى بعد أن قصد قرية بعيدة في الريف للتخلّص من ملاحقتها له لكنه لم يفلح في ذلك، هذه الحالة لم يمهد لها المخرج في فيلمه أو لم يقدم للمتلقي المبررات المقنعة لحالة سامي، فهو لم يفرد المساحة اللازمة التي توضح طبيعة الروابط بين الزوجين ودرجة الحب، وحجم الأثر الذي تركه غيابها في حياته، ما جعله يهلوس بطيفها أينما حلّ، فهو زوج غارق بعمله وتلبية طلبات المسؤولين الحريصين على مظهرهم الأنيق، وحتى وجبات الطعام يتناولها معها على عجل تجعل مسؤوليات الزوج ثقيلة بعد رحيل الزوجة ليشعر بأثر فقدها عليه وعلى أولاده.
فقد بدأ الفيلم بمشهد افتتاحي للزوجة وهي تعدّ وجبة الإفطار وتأهب سامي للخروج إلى عمله على عجل كعادته، وهنا تخبره أنه الإفطار الأخير لهما معاً لأنها ستموت اليوم.. هذا الكلام يتعامل معه بعصبية ولامبالاة، وبالفعل تسقط قذيفة على المنزل وتموت، ليعود ويراها غارقة بدمائها، وكأنها تعيش بمعزل عن البشر بحيث تبقى ملقاة على الأرض دون أن يبادر أحد إلى إسعافها حتى عودة زوجها.
هذا النوع من العبث والخيال المجنح لم نعتد عليه في سينما عبد الحميد، رغم أنه لجأ إليه في فيلم “صعود المطر”، واستقبل ببعض النقد والاستهجان. ومع هذا يغامر بالعودة إليه دون أن يبحث عن توظيف مقنع للحالة النفسية للشخصية المحورية تجعل المشاهد يتقبل هواجس سامي وخيالاته، كما برع في افتتاحية فيلمه “نسيم الروح” على سبيل الذكر.
هذا السيناريو لـ”الإفطار الأخير” الذي حصد عنه جائزة أفضل سيناريو في مهرجان الإسكندرية بدورته السابعة والثلاثين، افتقر إلى عنصر الإدهاش والمفارقة التي عوّدنا عليها في جلّ أفلامه السابقة لينساق هنا وراء هواجس درامية يحتاج الاشتغال عليها إلى حبكة واقعية متكاملة العناصر، يضيف عليها براعة إدارة الصورة والمفردات السينمائية التي تمنحها حيوية وحياة وحراكاً درامياً مشوقاً، وهذا ما افتقده شريط الفيلم الذي قدّم بصورة تقليدية لا ابتكار أو تجديد فيها، ولاسيما دور عبد المنعم عمايري الذي يعيدنا إلى شخصية طلال في (عزف منفرد)، وطرفة في (أنا وأنت وأمي وأبي)، وسامر في (نسيم الروح)، وحتى عامر في (خارج التغطية) وغيرها من شخصيات البطل المثالي الخيّر.
وحتى شخصية المثقف “اليساري” التي قدّمها كرم شعراني في هذا الفيلم، وبدت أكثر تجسيداً واقعياً، خرج من خلالها المخرج عن السائد والمألوف، فالتشكيل النمطي لشخصية المثقف “المتصعلك” -إن صحت التسمية- المتعارف عليها تتسم بالنفور من السلطة والتمرد عليها وعلى كل من يتقرب منها، لكنه في (الإفطار الأخير) حرّرها من الأفكار الفضفاضة وصالحها مع المنطق والواقع عندما ربطها بحالة توافقية مع شخصية سامي “خياط رجالات السلطة” الذين جيَّر علاقته بهم لخدمة جيرانه وأهل حارته، وليعري نفاق أصحاب المواقف والأفكار المتناقضة ممن يرفضون علاقات سامي، وفي الوقت نفسه يلجأون إليه لطلب عونه ومساعدته في تمرير قضاياهم العالقة.
قد لا يضيف شريط “الإفطار الأخير” جديداً في مسيرة عبد اللطيف الإبداعية، لكنه يبقى نقطة مضيئة في مسيرة التجريب السينمائي وتطويع اللغة البصرية لخدمة الفكر الإنساني الخلّاق، ودعوة مستمرة لإنشاد الحب والخير والسلام في المجتمع، الرسالة التي يعطّرها عبد الحميد بفكره وإحساسه المفعم بالإنسانية والنقاء.
آصف إبراهيم