مجلة البعث الأسبوعية

عبر صناعة سوق سوداء للسلاح.. واشنطن تنسف نظرية الأمن الأوروبي

البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي

الحديث عن توريد السلاح إلى أوكرانيا موضوع شائك ومعقّد، فَتَحت عنوان “عدم الرغبة في الدخول في صراع مباشر مع روسيا” يتم تحويل أوكرانيا إلى خزان ضخم للأسلحة الغربية، وخاصة الأسلحة التقليدية المؤثرة كالدبابات والصواريخ الموجّهة المحمولة ومدافع الهاوتزر وصواريخ جافلين والمسيّرات، وجميع هذه الأسلحة إلى حدّ ما يمكن أن يتم استخدامها على مستوى جماعات أو ميليشيات وليست حكراً على الجيوش النظامية.

فقد تزايدت التقارير التي تتحدّث عن استنفاد ترسانة أوكرانيا من الأسلحة التي ورثتها من الاتحاد السوفييتي السابق، أو التي تم تجميعها من دول أوروبية أخرى كانت تحتفظ بها من الحقبة السوفييتية، وهذا يعني، فيما يعني، أن الجيش الأوكراني الحالي وحتى المتطرّفين النازيين الأوكرانيين باتوا يعتمدون في قتالهم الجيش الروسي على سلاح أغلبه تم توريده من دول حلف شمال الأطلسي “ناتو”، بمعنى أن أوكرانيا أصبحت الآن فعلياً تحارب روسيا بسلاح غربي كامل، ما يؤكد من هذا الجانب الرؤية الروسية القائلة: إن “ناتو” يشنّ حرباً على روسيا بالوكالة، وإنه سيحارب روسيا حتى آخر جندي أوكراني.

فإذا نظرنا إلى الأمر من زاوية موضوع التسلح المتعلق بجميع دول العالم، فإنه يشي بأن هناك عملاً واضحاً على إعادة تسليح أوكرانيا مجدّداً بأسلحة غربية بدلاً من الأسلحة الموجودة التي تخضع للمعايير الروسية ولا يمكن الاستعاضة عنها بتلك التابعة لجيرانها الغربيين ببساطة، وهذا له علاقة ربما بتغيير عقيدة الجيش الأوكراني نهائياً باتجاه الغرب، هذا إن صحّ أن الغرب ينوي فعلاً أن تنتصر أوكرانيا في هذه الحرب وأن يتقبّلها عضواً جديداً في ناديه، سواء على مستوى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أم على مستوى قبولها عضواً بحلف شمال الأطلسي “ناتو”.

وهذا يعني أيضاً أن قوات كييف، تستخدم اليوم، أو تتعلم كيفية استخدام، أسلحة صُنعت في الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين المنضوين في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وقد سوّغ الغرب بدايةً حذره من تزويد أوكرانيا بهذا السلاح بأنه لا يريد أن يتسبّب ذلك باندلاع نزاع بين الناتو وروسيا، كما شعر بالقلق من إمكانية سقوط تكنولوجيا الأسلحة المتقدمة في أيدي روسيا.

ولكن بعد أن استنفد حلفاء أوكرانيا مخزوناتهم من المعدات ذات المعايير الروسية، بما في ذلك الدبابات والمروحيات لدعم قوات كييف، قادت الولايات المتحدة جهود تمشيط دول سوفييتية سابقة أخرى للحصول على ذخيرة وقطع ومعدات إضافية تلبّي احتياجات أوكرانيا، وقال مسؤول أمريكي في حديثه عن الأسلحة السوفييتية أو ذات المعايير الروسية: “لم تعُد موجودة في العالم”، ما يعني أنه بات على القوات الأوكرانية الانتقال إلى أسلحة غير مألوفة بالنسبة لها صُنعت بناء على مواصفات غربية.

ولكن انتقال هذه الأسلحة إلى الجيش الأوكراني يجب أن يتم بحذر شديد، حيث يرغب “الحلفاء” في التأكد من أن القوات الأوكرانية ستتمكّن من استيعابها بشكل آمن وثابت، لذلك على حدّ زعمهم يتم توريدها على مراحل خشية قصفها بشكل كامل ومباشر من الجيش الروسي، ولكن الحقيقة طبعاً أن الأمر متعلّق أكثر بمسألة إطالة أمد الحرب وليس بإنهائها، فعلى أوكرانيا أن تنتظر كثيراً مواعيد إرسال هذه الأسلحة على شكل حزم، فآخر حزمة من الأسلحة الأمريكية بقيمة 700 مليون دولار أُعلن عنها في الأول من حزيران وهي أربع راجمات صواريخ من طراز “هيمارس” و1000 صاروخ مضاد للدبابات من طراز “جافلين” وأربع مروحيات بمعايير سوفييتية من طراز “مي – 17″، وتشمل كذلك 15 ألف قذيفة “هاوتزر” و15 مدرعة خفيفة وغير ذلك من الذخيرة، وبرّر ذلك مسؤول أمريكي بقوله: “نحاول المحافظة على تدفق الأسلحة بشكل ثابت”.

ولكن ما الذي يمنع أن يتم الإعلان عن إرسال كمية محدودة من الذخيرة، ثم القيام بإرسال كمية أكبر بكثير إلى أوكرانيا بعد أن تحوّل هذا البلد إلى مسرح للمرتزقة وتجار السلاح والمخابرات الغربية، حيث يحمل هذا الأمر مخاطر كبيرة لجهة تحويل أوكرانيا إلى سوق سوداء للسلاح يتم من خلالها توريده إلى مناطق النزاع في العالم وخاصة في الشرق الأوسط، إذ إن هناك سابقة أخرى في ليبيا التي حولها “ناتو” إلى مستنقع لتوريد السلاح والإرهابيين إلى محيطها، وأفغانستان التي أريد لها أن تكون خاصرة رخوة لدول آسيا الوسطى.

وهذا ما قاله الباحث في معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، سايمون ويزمان، من أن الأسلحة المورّدة لأوكرانيا “قد تختفي في نهاية المطاف في السوق السوداء”، حيث جاء في مقابلة له مع قناة “سكاي نيوز” البريطانية، أن وتيرة تسليم الأسلحة والمعدات العسكرية إلى أوكرانيا تتصاعد، وهو ما ينذر بإمكانية دخولها إلى السوق السوداء، عازياً ذلك إلى “عدم سيطرة أوكرانيا بالكامل على أراضيها”، حيث إن تسليم الأسلحة إلى سلطات كييف بهذه السرعة الكبيرة يزيد من خطر فقدان السيطرة عليها.

وقد اتفقت مع ويزمان ممثلة منظمة “حملة مكافحة تجارة السلاح” البريطانية، كريستين بايز، التي قالت: “قد تعتقد أنك تعطي الأسلحة لأشخاص تعرفهم وتحبّهم، ولكن بعد ذلك ينتهي بهم الأمر ببيعها إلى أشخاص لا تعرفهم ولا تحبّهم”.

ومن هنا صرّح رئيس الوفد الروسي للمحادثات بشأن الأمن العسكري والحدّ من التسلح في فيينا، كونستانتينغافريلوف، بأن الأسلحة المورّدة إلى أوكرانيا تُباع في السوق السوداء وتُرسل إلى الشرق الأوسط، مشيراً إلى أن “هناك خطر انتشار الأسلحة الصغيرة الخفيفة من منطقة الصراع، وخاصة الصواريخ الأمريكية المحمولة الموجّهة المضادة للدبابات (جافلن) وغيرها من المنظومات المضادة للدبابات، وكذلك منظومات الدفاع الجوي المحمولة، إلى جميع أنحاء العالم”.

ومن جهة ثانية فإن الدعوة الأمريكية الأصلية للدول الغربية إلى دعم أوكرانيا بالأسلحة الغربية تنطوي على عمل ممنهج لإنعاش شركات السلاح الأمريكية، فالحديث عن أسلحة نوعية كالصواريخ الموجّهة ومنظومات الدفاع الجوي المحمولة، يجعل الوجهة الرئيسية لهذا النوع من السلاح هو السوق الأمريكية، وبالتالي يتعيّن على الدول الغربية أن تستغني عن الأسلحة الموجودة لديها من هذا النوع لمصلحة أوكرانيا، أو أن تشتري هذه الأسلحة مباشرة من واشنطن، وهذا ما أكده النائب الكندي من الحزب الليبرالي إيفان بيكر من أن توريد الأسلحة لأوكرانيا يمثل عبئاً ثقيلاً على الميزانية الكندية، حيث يتعيّن على البلاد شراء أسلحة من الولايات المتحدة.

فدولة مثل كندا، لديها جيش صغير نسبياً، عليها أن تزيد إنفاقها العسكري ليس لأنها تخوض حرباً ولكن لأن عليها تنفيذ القرار الأمريكي بتزويد أوكرانيا بالسلاح، وهذا يتم طبعاً من خلال سوق السلاح الأمريكي الذي يبحث عن المبيعات، وذلك لن يساعد كييف، لكنّه يصبّ الوقود على نار الصراع ويؤجّجه، كما قال السفير الروسي لدى كندا أوليغستيبانوف.

ومن باب آخر ستجد دولةٌ مثل ألمانيا نفسها مضطرّة لتزويد أوكرانيا بفخر صناعتها من الدبّابات “ليوبارد” بعد أن وقع الاختيار عليها لتزويد الجيش الأوكراني بها، علماً أنها لن تقدّم على الأرض أكثر مما قدّمته ترسانة أوكرانيا من الدبابات السوفييتية السابقة، لأن الدبابة في حرب من هذا النوع لا يمكن أن تصنع أيّ نصر مع وجود أسلحة روسية حديثة ومتطوّرة قادرة على التعامل مع جميع أنواع الدبابات بسهولة، وهذا ربما ما تنبّهت إليه ألمانيا وبرّرت مماطلتها بتسليم أوكرانيا هذه الدبابة بالقول: إنها تخشى “ظهور” هذه الآليات القتالية في روسيا، وهو ما يمثّل تذكيراً بأفعال ألمانيا النازية خلال الحرب الوطنية العظمى، حيث ستظهر الدبابات الألمانية نفسها مرة أخرى في الأراضي الروسية، على حدّ زعمها.

ولكن الأمر في الحقيقة ينطوي على خوف من سقوط هذا السلاح بأيدي روسيا وهو واقع لا محالة، وبالتالي ستضطر ألمانيا للتخلي عن هذا السلاح لمصلحة شرائه أيضاً من السوق الأمريكية أو من أسواق أخرى.

والدليل على ذلك ما نقله موقع “بيزنيسإنسايدر” من أن مسؤولاً إسبانياً اعتذر للحكومة الألمانية عن “الإثارة المفرطة” والضغط في مسألة توريد الشحنة المحتملة لدبابات ليوبارد A4 الألمانية من إسبانيا لأوكرانيا.

ووفقاً للموقع، فإن مثل هذا القرار يمكن أن يخلق سابقة حقيقية، لأن هذه ستكون أولى دبابات الناتو التي ستتبرّع بها الدول الغربية للقوات المسلحة الأوكرانية، كما أن البنود الواردة في العقد الإسباني الألماني تنصّ على نقله إلى دول ثالثة بشكل صارم بإذن من الحكومة الألمانية.

ومع كل هذه المخاطر التي يحملها توريد الأسلحة إلى أوكرانيا، لا تزال الولايات المتحدة مصرّة على إلزام الدول الغربية بضرورة توريد السلاح إليها، وهو ما يمكن أن يحمل في طياته خطراً أمنياً كبيراً على أوروبا التي تقع أوكرانيا في وسطها لجهة الشرق وترتبط بحدود طويلة مع دول رئيسية في الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يمكن أن يساهم في سقوط هذا السلاح في أيدي الجماعات المتطرّفة المشرذمة على خلفية سقوط الحكومة في أوكرانيا وتفكّكها نهائياً، وبالتالي تحوّل هذا البلد إلى مستنقع للإرهاب يهدّد دول الجوار وخاصة الأوروبية التي فتحت الباب واسعاً للمرتزقة الأجانب والإرهابيين لعبور أراضيها والقتال في أوكرانيا.