لهاث التحول للمحاصيل الاستوائية في طرطوس ينذر بفقدان توازن الحمضيات .. والزراعة تحذر !!
البعث الأسبوعية – محمد محمود
كيف تستطيع أن تقنع فلاحاً بالاستمرار بعد أن فشل مرات ومرات بتحقيق ربح مادي مقبول، أو عائد اقتصادي مجد لمحصول حمضيات ينتجه كل عام ثم يقف منتظرا حلول الإنقاذ الخجولة، وقرارات التدخل الإيجابي المترددة، والبطيئة في تصريف منتجاته، كيف تستطيع أن تقنع فلاحا كهذا ألا يبحث عن بدائل فريدة، وحلول سريعة تحفظ ماء وجهه، وتقدم له ولعياله عوائد مادية مقبولة في ظروف اقتصادية استثنائية، ولماذا لاتكون ضالة الفلاح بالزراعات الاستوائية وأصنافها المتعددة، التي تتطلب ظروف إنتاج مشابهة للحمضيات مع فارق اللهفة التي يبديها تجار سوق وسماسرة يتلقفون منتجات كتلك الفواكه بعجالة، فهي قليلة العرض، وسريعة التصريف، ومضمونة الربح في غالب الأحيان، في حين تبدو أسمائها الغريبة ذات موسيقى محببة عند مستهلك تعب الحصار الاقتصادي، ويعيش لهفة الجديد دائما، فما حقيقة ما يحدث، وما هو مدى هذا الانتشار.
قرار نهائي
قبل أشهر أتخذ “أبو عيسى” أحد الفلاحين في منطقة متن الساحل التابعة لمحافظة طرطوس قراره النهائي بقطع عدد كبير من أشجار الحمضيات في بيارته البالغ مساحتها خمسة دونمات، ويشرح “أبو عيسى” في حديثه للبعث موجبات قرار تحوله ذاك بالقول: في موسم الحمضيات الأخير انخفضت الأسعار كثيرا رغم ذلك حافظت على توازني كمنتج للمادة، وحاولت تعزيز الحالة الإيجابية لرفع معنوياتي رغم الأسعار المنخفضة، لكن ما أثار دهشتي أنني عندما كنت أوصل كميات جيدة من مادة الحمضيات للسوق، كان ثمنها مماثلا لبضعة صناديق منتجة من أصناف الفواكه الاستوائية مع فارق الجهد والتعب، وأجور العمال، حتى عندما تحسنت الأسعار قليلا. فمثلا في إحدى المرات كان ثمن ما بعته وهو مئتي كيلو غرام من مادة الحمضيات مطابقا لثمن بضعة صناديق فقط أوصلها معي أحد الأصدقاء لإنتاجه من مادة الأفوكادو التي زرع أشجارها في حقل مجاور لحقلي، فهل يعقل هذا الأمر، وهو من شجعني أيضا على قراري المتخذ مؤخرا، والذي بدأت فيه منذ أشهر مع الاكتفاء بترك عدد قليل من أشجار الحمضيات للاكتفاء الذاتي فقط.
توسع في التجربة
حال أبو عيسى هو حال فلاحين كثر سبقوه في التجربة وبعضهم قطع أشواطا بعيدة في زراعة وإنتاج
الفواكه الاستوائية المتعددة الأسماء والفريدة بأنواعها، فهناك ( الكيوي والمنغا والافوكادو والموز والشوكلا والقشطة والبابايا والدراغون فروت ..) وغيرها من أصناف غريبة وفريدة وجميع تلك الأشجار نجحت وأعطت في ظروف إنتاج مشابهة للحمضيات، حيث يؤكد هؤلاء المزارعون أن اعتماد الساحل التقليدي على الحمضيات والخضراوات الموسمية ول زمانه ومضى، ففي السنوات الأخيرة أصبحت الحمضيات مكلفة الإنتاج وأسعارها رخيصة، ما أجبر الكثيرين منهم على استبدال أشجارها بزراعات جديدة، وتكثر التجارب الناجحة في مناطق مختلفة بريف محافظة طرطوس ففي قرية بلاطة الغريبة هناك مشروع ناجح لتلك الزراعات، ومثله في الخريبات وسمريان والجماسة وميعار شاكر، حيث يتوسع هؤلاء بتجربتهم، ويرفدون السوق المحلي بمنتجات مختلفة من محاصيلهم الاستوائية كما يصدرون بعضا منها، ويتحدثون عن نجاح منقطع النظير لتلك الزراعات، وطلب كبير عليها، ولكن ما هو رأي مختصي الزراعة في هذا الانتشار غير المسبوق، وما هو مقداره في طرطوس، وظروف إنتاجه.
حذر مطلوب
في مديرية زراعة طرطوس يؤكد فادي عيسى نائب مدير الزراعة ضرورة منح الوقت والمدة الزمنية الكافية لأي محصول جديد قبل الحكم على جودته من عدمها، كذلك الأمر بالنسبة لبعض أنواع الزراعات الاستوائية المدخلة حديثا، والتي أخذت بالانتشار سريعا بمحافظة طرطوس في ضوء انخفاض القيمة التسويقية والجدوى الاقتصادية للحمضيات، حيث يتوجب دراسة الأمراض الخاصة بكل صنف ومراقبته بيئيا، وهو الدور المناط بمديرية الزراعة ومهندسيها، فقبل اعتماد أي أصناف زراعية جديدة يجب إجراء دراسة بحثية عن ظروف تواجدها المناخية والبيئية والإصابات المرضية والحشرية التي يمكن أن تتعرض لها، ومنع انتشارها ضمن الزراعات المحلية طوال فترة الدراسة، فجائحة واحدة تحدث قد تودي بملايين الأشجار المزروعة، ومثال هذا الأمر ما حدث في إيطاليا وإسبانيا قبل سنوات بما عرف بجائحة اللفحة البكتيرية التي قضت على ملايين أشجار الزيتون عام ٢٠١٣ بعد إدخال سلالات جديدة غير مراقبة كالزيتون القزمي وغيره، ويبدو هذا الأمر أكثر وضوحا أيضا في التعامل مع بعض المحاصيل الاستراتيجية كالقمح فصنف واحد يحتوي على الأمراض يمكن أن يودي بموسم كامل.
الحل بالدعم
ويبين عيسى أن الزراعات الاستوائية التي بدأت تنشط في محافظة طرطوس هي زراعات مدخلة في ضوء انخفاض القيمة التسويقية والجدوى الاقتصادية بالمحافظة لمادة الحمضيات، ورغم أن المقارنة بالنسبة للظروف البيئية متشابهة مع الحمضيات إلا أن القيمة التسويقية أعلى بكثير لصالح المنتجات الاستوائية على ضوء قلة العرض وكثرة الطلب، ورغم ذلك يفضل عيسى عدم الحكم على التجربة ومنحها الوقت الكافي فلعبة العرض والطلب تغير الميزان دائما، ويرى أن الحل المطلوب اليوم هو دعم زراعة الحمضيات وإعطائها أسعار مجزية أو محاولة إيجاد أسواق تصديرية لها وإنشاء معامل تحويل فائض الإنتاج لشكل آخر مقبول عند المستهلك، فالنجاح في التسويق هو معيار النجاح النهائي، والبيئة الساحلية هي موطن أصلي للحمضيات فيتوجب علينا عدم المجازفة بالتخلي عنها أيا تكن المغريات.
أرقام وتقديرات
ورغم الضجة المثارة تؤكد المعلومات التي حصلنا عليها من دائرة الإنتاج النباتي في المديرية انتشار متواضع لمشاريع الفواكة الاستوائية وصغر المساحات المزروعة التي تشغلها مقابل كميات جيدة منتجة منها حتى الآن فبحسب المهندس أحمد عرابي رئيس دائرة الإنتاج النباتي في مديرية الزراعة هناك ما يقارب ال ٧٠٠ طن تنتج شهريا ضمن المواسم من الزراعات المدخلة حديثا للمحافظة والتي تشمل ١١ صنفا من الأشجار الثمرة والفواكه وهي (كيوي- افوكادو- منغا- كاكي- قشطة- موز- شوكلا- باباي- سابوتا- كمبور- دراكون) حيث يأتي الموز في المرتبة الأولى للإنتاج ب ٢٧٥ طن منتجة يليه الافوكادو ب ١٣٢ طن، في حين يؤكد عرابي أن انتشار هذه الأصناف في مناطق محددة على الشريط الساحلي ومناطق أخرى ( الخريبات- مجدلون البحر- الجماسة- النقيب- متن الساحل- دوير الشيخ سعد- ميعار شاكر- بيلة- سمكة- سمريان- حريصون- ضهر صفرا .. وغيرها ).
كلف عالية
ومن ناحية إنتاج غراس الأشجار الاستوائية بين عرابي أنها تباع في المشاتل الخاصة ومشاتل الدولة وهناك لجان تابعة لمديرية الزراعة تقوم بالإشراف على المشاتل الخاصة، والتأكد من صحة الغراس المناجة ومراقبتها وتختلف أسعار الغراس ما بين المشاتل الخاصة ومشاتل الدولة فأسعارنا مدروسة وشبه رمزية لمساعدة الفلاحين، حيث تقوم وزارة الزراعة ضمن خطتها بإنتاج بعض الأصناف وهي (كاكي- كيوي- أفوكادو) حيث تمت دراسة هذه الأصناف على فترات جيدة ولم تسجل أي تأثير أو خطر بيئي وهي ذات جدوى اقتصادية جيدة ومربحة، وتحدد قيمة هذه الغراس من الوزارة كل عام بنشرة أسعار صادرة، في حين أن بعض هذه الأصناف ذات كلف عالية في المشاتل الخاصة لعدم اعتمادها وصعوبة الحصول عليها فالمنع لا يتعلق بالزراعات المدخلة حديثا ولكن غير المعتمدة، ويختم عرابي مؤكدا دور الزراعة في تشع أي نوع من الأشجار المثمرة لصالح للفلاح بما يحافظ على الزراعات الأساسية ويحفظ توازن العرض والطلب.
سمات ملحوظة
ختاما بات التخبط في الإنتاج والتخطيط الزراعي سمة ملحوظة عند معظم مزارعي الساحل بعضهم يرى الحل بهذه الزراعات الاستوائية الدارجة، وبعضهم يبحث عن حلول أكثر سرعة لتحصيل ربحية مطلوبة عبر البيوت المحمية المكلفة أيضا، والجميع يشكو قلة الموارد المتوفرة من أسمدة ومحروقات ومياه لزوم عملية الإنتاج الزراعي لأي من الأصنف، ويتفقون أن إنتاج الحمضيات بات من أسوأ المشاريع الزراعية التي يمكن لفلاح مبتدأ أن يفكر بها، في ظل غياب المشاريع المخططة والمدروسة، لا ندعم بقوة المحاصيل الاستراتيجية لتبقى إلا بشكل محدود ومتأخر، فهل سنكون أخيرا رهن تلك التوجهات التي تبحث عن الخلاص بمفردها، والتي ربما تجعلنا يوما نخسر محصول حمضياتنا بعد أن تغنينا به سنوات وسنوات ؟!