العمل القومي (نظرة نقدية)
السفير نايف القانص (اليمن)
ينعقد المؤتمر القومي العربي في دورته الـ 31 في ظروفٍ استثنائية بالغة التعقيد على المستوى العربي والإقليمي والدولي. ومع أن الوضع العربي هو الأكثر تعقيداً، إلا أن هذا المؤتمر يعبر عن الإرادة العربية الشعبية، فهو الطيفُ المتنوع والجامعُ لكل القوميين العرب، مثقفين وسياسيين ومن فئات وأجيال عدة تجمعهم قضية واحدة هي قضية أمتهم العربية، لكي يحققَ نضالُهم ووحدةَ أمتهم، ولتستعيد هذه الأمة عزتها وكرامتها، ولن يتم ذلك إلا باستعادة أراضيها المحتلة.. وباستعادتها تتحقق العدالة الاجتماعية والتعايش بسلام.
ما أريد طرحه في هذه الورقة هو الحوار التفاعلي غير المحكوم بأية اعتبارات تقليدية، ولا بأية قوالب إيديولوجية بالية، والوصول من خلال هذا الحوار إلى تشخيص واقع العمل القومي في هذه المرحلة العصيبة التي تمر بها دولنا العربية، وطرح الحلول الممكنة والواقعية للمشكلات والأزمات العميقة التي يتخبط فيها ذلك العمل.
ولا بد لي من الاعتراف هنا بأن العمل القومي في هذه المرحلة يراوح في مكانه، بل يتراجع تراجعاً دراماتيكياً، ويكاد يفشل في مواجهة مختلف التحديات القائمة أمامه. وقد يبدو هذا القول متشائماً، ولكني أعتقد أن الاعتراف بهذه الحقيقة والانطلاق منها هو ضرورة لأية محاولة جادة تهدف إلى تفعيل العمل القومي.
ولا بد أيضاً من ملاحظة أن التركيز الذي نحتاجه يجب أن ينصبّ على التحديات الداخلية أكثر من الخارجية، ذلك أن هذه الأخيرة ما كانت لتستعصي وتتغول، على النحو المأساوي الذي نراه الآن، لولا تردي أوضاعنا الداخلية وتحولنا إلى فريسة سهلة لمختلف القوى الإقليمية والدولية الطامعة. فلنركز إذاً على التحديات الداخلية ومواطن القصور الذاتي التي أدت إلى انطفاء شعلة العمل القومي، ولنتلمس بداية الطريق الأمثل إلى إحياء هذه الشعلة بكل ما يقتضيه هذا من شجاعة وصراحة.
بعد هذه المقدمة، سِأبدأ بتوصيف موقعنا كعرب في الخارطة الإقليمية والدولية، فمن أجل أن نتجاوز عثرات الأمس، ونواجه متغيرات اليوم، ونرسم خطة جديدة للغد والمستقبل، علينا أن نحتكم للواقع وننطلق منه؛ فالواقع الدولي بمتغيراته يحكم العالم ويوجه التفكير، والنظام الدولي هو اليوم على المحك في صراع الأقطاب، ما بين القطب الواحد إلى عودة القطبين، أو تعدد الأقطاب في ظل العولمة التي تشق طريقها بقوة لفرض اللاقطبية.
– نحن أمام ميلاد نظام دولي جديد لم تتضح بعد معالمه. وكل ما يتضح أن الواقعية الجديدة التي تفرضها القوى العالمية تسيطر وتفرض التحكم بالاقتصاد العالمي المحمي بقوة التكنولوجيا العسكرية وهيمنة الدول دائمة العضوية في مجلس الامن الدولي.
– فالقوة هي التي تفرض النظام، وإذا اختل ميزان القوة اختل ميزان النظام. فلا نظام بلا قوة، ولا قيمة للقوة دون أن تفرض النظام على الجميع، والدولة لا تستقر إلا بالنظام والنظام لا تحميه سوى القوة.
وعلينا أن نحلل واقعنا وأن نستدرك وضعنا وتأثيرنا على المستوى الإقليمي والدولي، لأننا لا نمتلك القوة، وكيف لنا أن نمتلكها وواقعنا بهذا الحال الذي نحن عليه.
فعلى المستوى الإقليمي، نحن كعرب خارج المعادلة لانعدام المشروع الاستراتيجي العربي، وانعدام القوة التي تحمي وتفرض المشروع.
وهناك على مستوى الإقليم ثلاثة مشاريع تتنازع السيادة: المشروع الإيراني، المشروع التركي، والمشروع الصهيوني، ومن بين هذه المشاريع الأطماع الدولية في المنطقة.
أما الحضور العربي فيتمثل في بعض الدول التي تحمل أجندة تنفيذية لمشاريع إقليمية ودولية، ولا تحمل أي مشروع مستقل، ذلك أن المشروع العربي مقيد، وتتم محاربته من قبل المشاريع الإقليمية الأخرى والأطماع الدولية، وتدميره من خلال الأجندة الدولية التي تنفذها دول عربية.
وفي ظل غياب المشروع العربي المستقل، وتصدع الواقع العربي، وتنامي الصراعات والحروب العربية البينية، تنفيذاً للأجندات الخارجية، ولا سيما الأمريكية والصهيونية؛ وفي ظل التحديات الأخرى التي تمزق العرب وتشرذمهم وتهدد دولهم الوطنية، وفي مقدمتها تحدي الاستعمار والإرهاب التكفيري الذي يدور في فلكه، فإن من الطبيعي أن لا يكون واقع العمل القومي – وهو موضوعنا الرئيسي – بخير. فلنبدأ بتفحص حال هذا العمل وصولاً إلى بعض المقترحات والأفكار لإنعاشه وتفعيله.
العمل القومي (نظرة نقدية)
على الصعيد الرسمي (انهيار تام)
– الأنظمة العربية وجامعة الدول العربية ودورهما في انهيار العمل القومي وتحولهما إلى عدوّه اللدود
على الصعيد الشعبي (الوضع أفضل)
– المنظمات الأهلية (سلبيات + إيجابيات)،
الجماهير: هي الرصيد التاريخي للوعي القومي الفطري، لكن هذا الوعي مستهدف من قبل العدو ولا سيما من خلال الإعلام المعادي ولذا فلا بد من التصدي لهذا الخطر.
– نظرة نقدية إلى دور الجماهير (إيجابيات + سلبيات)
تقضي الملاحظة الموضوعية بالتفريق بين العمل القومي على الصعيد الرسمي، الذي نعني به الأنظمة العربية، وما يسمى “الجامعة العربية”، وبين العمل القومي على الصعيد الشعبي الذي نعني به منظمات المجتمع المدني العربية والجماهير؛ ذلك أن حال العمل القومي يختلف اختلافاً جذرياً على هذين الصعيدين، فهو على الصعيد الأول غائب تماماً كما سنبين، أما على الصعيد الشعبي فهو موجود، حتى وإن كان يعاني من الضعف والكثير من الصعوبات والأزمات.
على الصعيد الرسمي
ليس مصادفة أن تتمكن الرجعية العربية من السيطرة على الجامعة العربية، ذلك أن تفكيك وتدمير الدول الوطنية العربية خدمة للمشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة ما كان يمكن أن يمر لولا انخراط تلك الدول عملياً في تنفيذ هذا المشروع، وتوظيف المنظمة في إسباغ الشرعية على العدوان الذي استهدف الدول الوطنية العربية. ولنا في العدوان على ليبيا وسورية واليمن أمثلة حيّة على هذا الدور الرجعي والتأمري الخطير الذي ما زال مستمراً حتى الآن، والذي كان يمكن – لولا تمكن سورية من الصمود ودحر المؤامرة والعدوان – أن يصل إلى تحقيق هدفه التفتيتي وضرب المقاومة وتصفية القضية الفلسطينية.
والحقيقة أن الجامعة العربية، وبحكم تكوينها المشبوه، لم توجد تجسيداً لوحدة الأمة العربية كما يزعم بعض السذج، بل وجدت لتعميق تبعية الدول العربية المستقلة حديثاً، والمحافظة على تجزئتها وتخلفها وعجزها، فضلاً عن تبعيتها؛ وهذا ما يؤكده التقويم العام لنشاطها منذ أن رأت النور. وأما الأنظمة العربية (إذا استثنينا بعضها طبعاً) فهي أنظمة لا وطنية، أنظمة وظيفية يرتبط استمرارها عضوياً – كأنظمة – باستمرارها في خدمة ما يملى عليها من أجندات وإملاءات خارجية، ولا سيما محاربة القوى الحاملة للمشروع النهضوي العربي المقاوم محاربة لا هوادة فيها، مستفيدة من القوة المالية التي تتمتع بها، والتي تمكنت من خلالها من إقامة ترسانة إعلامية متطورة لغزو العقل العربي، وتغيير ثوابته وتتفيه قضاياه الرئيسية وفي مركزها قضية فلسطين، وإشغاله بقضايا ومشكلات مفتعلة تمهيداً لإقناعه بضرورة إنهاء الصراع مع العدو الصهيوني عبر التطبيع معه إلى حد التحالف رغم استمراره في احتلاله وعنصرية وغطرسته.
وما يمكن استنتاجه من هذا هو أن النظام الرسمي العربي نظام معاد عداء شرساً للعمل القومي بمضمونه التقدمي والتحرري والوحدوي الديمقراطي، وأن هذا النظام يشكل عقبة كأداء أمام نهوض العمل القومي، ما يستوجب تغييره، وهي مهمة صعبة وملقاة على عاتق جماهيرنا العربية في مختلف الدول التي انخرطت أنظمتها التابعة في خدمة المشروع الإمبريالي الصهيوني، وبطرق التغيير المناسبة التي تراها تلك الجماهير وتبتكرها؛ إذ إن تحويل الدولة القطرية التابعة إلى دولة وطنية مستقلة استقلالاً حقيقياً، وذات قرار سياسي سيادي، هو الطريق إلى تفعيل العمل القومي على الصعيد الرسمي، لأن الدولة الوطنية العربية هي بالضرورة مع التكامل القومي في أي شكل من أشكاله الديمقراطية التي تناسب الواقع العربي في ظل الظروف الإقليمية والدولية الراهنة، لأنها دولة تدرك أن هذا التكامل هو صمام أمان الاستقلال والأمن والتنمية والنهوض الحضاري عموماً.
ورغم ما نراه من ضعف المعارضات الوطنية في الدول العربية التابعة، فإننا لا نملك إلا خيار التعويل عليها ودعمها، وعلى حركة الشعوب في تلك الدول لإحداث التغيير الوطني الشرعي المنشود.
على الصعيد الشعبي
أولاً: المنظمات المدنية
لا بد من تثمين دور المنظمات المدنية العربية كالنقابات والمؤتمرات ومراكز الدراسات، وغيرها من المؤسسات غير الحكومية، ذلك أنها تلعب دوراً مهماً في تفعيل العمل القومي، ولا سيما أن بعضها يعد فعلاً من أركان هذا العمل.
وفي ظل ما بيناه من انهيار العمل القومي على الصعيد الرسمي، فإن البديل الأفضل هو تنشيط هذه المنظمات بمختلف أنواعها للقيام بدورها في تفعيل العمل القومي، خاصة وأنها تتمتع نظرياً على الأقل باستقلالية نسبية تتفاوت من دولة عربية إلى أخرى، وترتبط أكثر بمجتمعاتها، وتعبر عنها وعن أهدافها. ومن نافل القول إن المنظمات المعنية هنا هي المنظمات الوطنية المؤمنة بالمشروع العروبي، والتي ترفض كل محاولات التدجين والإخضاع، سواء كانت داخلية من السلط الحاكمة أو خارجية من قوى المشاريع المعادية لأهداف ومصالح الدول العربية وشعوبها.
وبقدر ما نثمن دور هذه المنظمات في تفعيل العمل القومي ونثني على ما حققته من إيجابيات في هذا المجال، لا بد لنا أيضاً من الإشارة إلى أنها ما زالت بعيدة عن إحداث النقلة النوعية التي نطمح لها، ذلك أن بعضها لا يستطيع – كما أشرنا – الخروج عن توجه السلطة الحاكمة في بلاده، وبعضها الآخر لا يملك ما يلزم من إيمان مبدئي بالمشروع القومي العربي، فضلاً عن أن الجهود المبذولة من قبل المنظمات والمؤسسات ذات الاستقلالية لم تنصهر بعد في بوتقة واحدة تزيد من تأثير عملها وقوته، ولم تصل بعد إلى خلق الأدوات الناجعة لتنسيق جهودها وتحقيق أهدافها المشتركة.
وما نلاحظه عموماً هو أنه كلما تمكنت هذه المنظمات من تحقيق هامش استقلال واسع عن السلطة وعن إملاءاتها، كلما انتهجت الخط الوطني الذي يؤهلها للإسهام بقوة في العمل القومي. وأما المنظمات الخاضعة للسلط الحاكمة في الدول العربية اللاوطنية، كما بينا، فهي جزء لا يتجزأ من النظام المعادي للمشروع القومي.
وثمة منظمات أخرى أكثرها من النوع الجمعياتي هي بالأصل مخترقة من قبل القوى الرجعية، وقد أوجدت خصيصاً ووهبت الدعم المالي اللازم، لتكون في خدمة المشاريع الظلامية المعادية؛ ونذكر منها على وجه الخصوص المشروع الإسلاموي الإرهابي الذي يسعى جاهداً إلى السيطرة على المجتمعات العربية ثقافياً وسياسياً، والحيلولة دون تحقيق أهدافها القومية؛ وهي منظمات شديدة الخطورة تستغل الأوضاع البائسة في معظم الدول العربية لاجتذاب الناس والتأثير عليهم باسم الدين، ومن ثم التمكن من استلاب عقولهم والسيطرة عليهم وتوجيه حركتهم؛ ومثلها المنظمات التي تعمل تحت مسميات الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي يوظفها الغرب ويقدم لها الإمكانيات اللازمة لتنفيذ أجندته الاستخباراتية في الدول العربية، وشيطنة ما تبقى من أنظمة عربية مستقلة وذات توجه وطني وقومي، واستعداء العالم ضدها، وتبرير العدوان عليها، وتغييرها بأنظمة تابعة وخاضعة للإملاءات الخارجية. ولا بد من محاربة هذه المنظمات وكشف أهدافها الحقيقية ونزع أقنعتها حتى لا تنجح في تحقيق أهدافها التدميرية.
ثانياً: الجماهير
إن الحامل الشعبي الأهم للعمل القومي هو الجماهير على امتداد الجغرافيا العربية الواسعة. وأود أن أبين أن الجماهير هي مصدر الوعي القومي الفطري، وأنها بحسها القومي السليم تشكل مصدر قوة للعمل القومي واحتياطياً ضخماً لهذا العمل، وضمانة لاستمرار المشروع النهضوي العربي. ولا يتناقض هذا مع ما نراه من تراجع في هذا العمل، وتراجع حركة الجماهير العربية، ذلك أن هذه الحركة تتأثر كما أشرنا سابقاً بالوضع العربي المتردي العام، ثم إنها مستهدفة من قبل الأنظمة الداخلية المعادية، كما من قبل القوى الخارجية الإقليمية والدولية المناوئة لذلك المشروع القومي. وليس غريباً أن تتعرض الجماهير لكل أشكال الإحباط والتيئيس الداخلي، وأن تعاني من التهميش والقهر والتجويع والقمع فضلاً عما تتعرض له من محاولات تشويش الوعي وتضليل العقل بمختلف وسائل الترغيب والترهيب، وفي مقدمتها وسائل الإعلام التي تلعب دوراً شديد الخطورة في محاولة حرف الجماهير العربية عن أهدافها الحقيقية، وضرب انتمائها القومي وطمس هويتها العروبية. لكننا نلاحظ أن الجماهير ما زالت، رغم كل ذلك، متمسكة بثوابتها القومية وهويتها العروبية، وما زالت تشكل سداً منيعاً في وجه مرور محاولات إركاع الأمة العربية والقضاء على مشروعها النهضوي. صحيح أن حركتها كثيرة القيود، وأنها تعاني من آثار الخطط المنهجية الرامية إلى التحكم بوعيها وإرادتها – وهذا ما يفسر ضعف حركتها أحياناً وقلة حيلتها – ولكن علينا ألا ننسى أبداً مواقفها الثابتة في مناصرة قضايا الأمة، وفي مقدمتها قضية فلسطين، ورفض كل المشاريع الرامية إلى تصفية هذه القضية. ومن هنا، يمكن القول أن الجماهير العربية بأعدادها الهائلة مرشحة في حال توفرت الظروف المناسبة، ووجدت الأدوات التنظيمية الفاعلة والقيادات النظيفة المخلصة، للنهوض بالعمل القومي، بل وإيصاله إلى أهدافه النبيلة.