موسكو لا تغفل عينها ازاء ما يحاك ضد سورية “صاعقة الشمال”… عنوان غرفة العمليات لصد تركيا الذاهبة الى المجهول
البعث الأسبوعية- علي اليوسف
انتقلت المواجهة بالوكالة على الأرض الأوكرانية إلى منحى غير مسبوق من التوتر بين روسيا والولايات المتحدة ومن خلفها حلف “الناتو”، ففي تطور خطير أعلنت واشنطن عن تزويد أوكرانيا بمنظومات صاروخية هجومية متطورة، ما يؤكد على قرار أمريكي حاسم بالذهاب إلى النهاية في مواجهة روسيا وتحقيق حلم هزيمتها.
أمام هذا الواقع الجديد، كيف سيكون رد روسيا على الخطوة الأمريكية، وهل الرئيس فلاديمير بوتين بصدد اتخاذ قرار غير مسبوق حيالها؟. وفق ما سربه مصدر في صحيفة “كاونتر بنش” الإستقصائية الأمريكية، فإن الرد الروسي سيكون إما في سورية عبر استهداف “مؤلم” لإحدى القواعد الأميركية، أو بقصف مواقع يتحصن فيها ضباط أميركيون رفيعو المستوى في كييف، وهو ما ألمح إليه الخبير العسكري في هيئة الأركان العامة الروسية ميخائيل خوداريونوك.
وبالفعل بالتزامن مع خطوة واشنطن الاستفزازية، آثرت موسكو الرد على طريقتها بعد تلقي معلومات من أجهزة الاستخبارات الروسية أن هناك تنسيق تركي- إسرائيلي ضد سورية، حيث أن هذا التنسيق ينسحب أيضاً على مواجهة روسيا في أوكرانيا لوجيستياً واستخبارياً، وعليه تم توجيه ضربة جوية غير مسبوقة استهدفت مستودعاً يحوي كميات ضخمة من الذخيرة شمال ادلب يتبع لفصيل “فيلق الشام” الارهابي المصنف بـ “الأقرب الى قلب أردوغان”، فهل فهمت أنقرة الرسالة الروسية جيداً؟.
موسكو لا تغفل عينها
ورغم أنها ليست الرسالة التحذيرية الأولى التي توجهها موسكو إلى أنقرة، إلا أن الضربة بدت الأعنف في غمرة التهويل التركي لشن عملية عسكرية في الشمال السوري لإنشاء ما يسمى “منطقة آمنة” ترفضها موسكو، في توقيت تعتبره أنقرة مناسباً جداً لانشغال روسيا بعملياتها العسكرية في أوكرانيا، لتكون رسالة واضحة أن موسكو لا تغفل عينها ازاء ما يحاك ضد سورية في هذا الوقت تحديداً، ولن تسمح بسرقة انجازاتها التي حققتها منذ العام 2015.
ليس هذا وحسب، ففي خطوة أبعد من ذلك بكثير، رصدت الاستخبارات الروسية مخططاً تعد له أنقرة والكيان الصهيوني فيما بات يعرف بـ تقاسم “حزامين أمنيين” لكل منهما شمال سورية وجنوبها، وهو ليس جديداً بطبيعة الحال، بل إن ترجمة مخطط الثنائي في هذا التوقيت الذي تنشغل فيه روسيا بالمواجهات العسكرية في أوكرانيا، يبدو ملائماً لكلا الطرفين، وتصريح الملك الأردني جاء مشكوكاً في توقيته، بزعم حلول ايران مكان روسيا في الجنوب السوري، والتصويب بشكل لافت على “مسرحية” تهريب المخدرات عبر الحدود الى الداخل الأردني على متن تسريبات تحمل مطالبة أردنية بـ “منطقة عازلة” على حدودها أسوة بما تعتزم أنقرة القيام به شمالاً، لتتزامن هذه الحملة مع أخرى سعودية صوبت على حزب الله وربطه بعمليات التهريب الى الأردن.
كل ذلك يشي بخيوط تنفيذ المخطط الإسرائيلي جنوباً من جديد، خاصةً على وقع رصد حراك أميركي لافت في الآونة الأخيرة تجاه مسؤوليها للدفع باتجاه المساعدة مرة أخرى في ترجمة هذا المخطط، لكن أمام كل ذلك فإن سورية التي استطاعت نسف المخطط المعادي مع حلفائها طيلة الحرب الكونية عليها سيكون لها تجاه طوق “الكماشتين” التركية و”الإسرائيلية” شمالاً وجنوباً كلاماً آخر. ووفقاً لمعطيات استخباراتية روسية فإن “صاعقة الشمال” بات عنوان غرفة العمليات المشتركة بين سورية وحلفائها لصد أي عدوان تركي محتمل بهدف فرض ما تسميه أنقرة ” منطقة آمنة” مهما كلف الأمر. أما جنوباً، فلن يختلف الوضع عن العملية العسكرية التي شنها الجيش العربي السوري في العام 2015 في درعا والقنيطرة، والتي على أساساها تم نسف المشروع “الإسرائيلي”، وهو ما قرأته تل أبيب جيداً.
أسابيع ساخنة
ووسط مؤشرات تنذر بأسابيع ساخنة في المنطقة من العيار الثقيل، يلحظ استنفار الكيان الإسرائيلي، وفرض حالة التأهب على الحدود اللبنانية-السورية، ونصب منظومات إضافية من القبة الحديدية في كل اتجاه. ورغم ترجيح أجهزتها الأمنية والإستخبارية أن تركيا ستكون ساحة مواجهة في الظل، إلا أن أصواتاً في المؤسسة الأمنية “الإسرائيلية” نبهت من خطر حصر جغرافية المواجهة في مكان دون غيره، وعليه، وفيما وصلت مناورات “مركبات النار” الإسرائيلية الضخمة الى ذروتها، في محاكاة لهجوم “إسرائيلي” يستهدف إيران، وتدريبات مكثفة في قبرص تحاكي شن حرب على لبنان، ثمة من يسأل، هل ستتطور “حرب الظل” باتجاه حرب كبرى في المنطقة؟.
خطة أردوغان ..إلغاء أم تغيير في التّكتيك؟
في الفترة الممتدة بين العام 2016 والعام 2020، أقدم الجيش التركي على شن 4 عمليات عسكرية داخل الأراضي السورية في منطقي الشمال والشمال الشرقي، إذ بدأ في شهر آب 2016 عملية سمّاها “درع الفرات”، ثم عملية “غصن الزيتون” في كانون الثاني 2018، تلتها عملية “نبع السلام” في شهر تشرين الأول 2019، ختاماً بعملية “درع الربيع” في شباط العام 2020، وكلّها تحت ذريعة “حماية الأمن القومي التركي”.
استهدفت عملية “درع الفرات” المنطقة الواقعة بين نهر الفرات شرقاً ومنطقة أعزاز، وقد أدت إلى احتلال مناطق في ريف حلب الإستراتيجي أهمها مدينتا جرابلس والباب والريف المحيط بهما. ونتج عن عملية “غصن الزيتون” احتلال تركيا والجماعات المسلحة الموالية لها مدينة عفرين وريفها، ومنطقتي راجو وحندرس والمجمعات الزراعية والسكنية التابعة لها. أما عملية “نبع السلام”، فقد أفضت إلى سيطرة تركيا على مناطق في تل أبيض ورأس العين في ريفي الرقة والحسكة، وجزء من طريق “إم 4” الذي يصل بين حلب والحسكة في منطقة شرقي الفرات. وقد أدت عملية “درع الربيع” إلى تقدم القوات التركية والفصائل الموالية لها باتجاه ريف محافظة الحسكة، وتوقفت عند اتفاق روسي -تركي لتسيير دوريات مشتركة على طريق “إم 4” الشرقي، الأمر الذي أبقى المناطق التي احتلتها تركيا كالجزر المنفصلة عن بعضها البعض، ومنع إقامة شريط محتل متكامل ومتصل، وهو ما لم ينساه أردوغان أبداً أو يسكت عنه.
كان أردوغان قد عبّر غير مرة عن أطماعه الحقيقية في سورية، وعن أحلامه الرامية إلى اقتطاع مساحات واسعة منها، باعتبارها مناطق عثمانية. ولم يكتف رأس النظام التركي بالتوغلات العسكرية وبشن الهجمات على الأراضي السورية، بل احتضن منذ بداية الحرب على سورية معظم الجماعات الإرهابية المسلحة المعادية للدولة السورية، وعمل على تدريبها وتسليحها، ناهيك بسعيه منذ الأيام الأولى للحرب على سورية إلى دفع مئات الآلاف من السوريين إلى النزوح عن أراضيهم للضغط على دمشق، وابتزاز العالم كله بمسألة اللاجئين بكل الوسائل الممكنة.
وقد تحولت الجماعات المسلحة السورية والأجنبية إلى أداة تركية تقاتل بالنيابة عن أنقرة وبإسنادها، أو جنباً إلى جنب مع الجيش التركي، إذ بلغت النقاط العسكرية حتى العام 2019 مشارف مدن حلب وحماه واللاذقية، ونقاطاً متقدمة جداً في ريفي الرقة والحسكة، إلى أن استطاع الجيش العربي السوري وحلفاؤه تحرير الكثير من تلك المساحات، ومحاصرة النقاط التركية، ثم طرد حامياتها، وصولاً إلى نهاية العام 2019.
لكن أردوغان، كعادته، لم يوفر أي فرصة سياسية في المسرح المحلي أو الإقليمي أو العالمي، إلا وحاول استغلالها للضغط من أجل السير قدماً في خطته، إلى أن انطلقت شرارة الحرب في أوكرانيا، وما نتج عنها من توترات واختلالات في المسرح الدولي، وسعار أميركي – غربي في وجه موسكو، ليعود أردوغان إلى طرح خطته في وجه العالم، مستغلاً حاجة الغرب له كقوة إقليمية يمكنها الضغط على موسكو والمشاركة في حصارها ومواجهتها، كما حاجة روسيا له اقتصادياً ولوجستياً على أكثر من صعيد.
ومع اقتراب موعد الانتخابات التركية، وتحول مسألة اللاجئين السوريين إلى مادة للهجوم على أردوغان وحزبه في الداخل، وسعي السويد وفنلندا إلى الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، ومعارضة أنقرة هذا السعي، بذريعة أن الدولتين تستقبلان عناصر إرهابية، بدأ الرئيس التركي في الأسابيع الأخيرة بإعادة التلويح بعملية عسكرية جديدة في الشمال والشرق السوريين، ومهد الأمر بعملية عسكرية في شمال العراق.
يعتبر أردوغان أن الفرصة الدولية مناسبة جداً للقيام بعملية أخيرة، أو لاستكمال كلّ العمليات التي بدأها سابقاً بهجوم شامل يهدف إلى احتلال منطقة بعمق 30 كم وطول 432 كم، وذلك لربط جميع مناطق الاحتلال التركي ببعضها البعض، الأمر الذي يستلزم احتلال مناطق تل رفعت، وعين العرب، ومنبج، وعين عيسى، ومطار “منغ” العسكري، وسد تشرين، ومناطق بين مدينتي تل أبيض ورأس العين، بحيث يسيطر الجيش التركي والفصائل الإرهابية الموالية له على طول الشريط بين إدلب والحسكة، مروراً بأرياف حلب والرقة، على أن تستكمل الخطة باحتلال منطقة القامشلي، وصولاً إلى المالكية على المثلث الحدودي السوري العراقي التركي، وتكتمل “المنطقة الآمنة” المزمع إقامتها.
وقد بدأ الجيش التركي بالفعل بتنفيذ خطة عسكرية في شمال العراق تصب أهدافها في سلة الخطة التركية لشمال سورية وشرقها. كذلك، قامت المدفعية التركية وراجمات الفصائل الموالية لأنقرة بتنفيذ هجومات وقصف مدفعي في ريف منبج وتل رفعت، لاختبار جميع الأطراف العسكرية الموجودة في المنطقة، وعلى رأسها دمشق وموسكو.
اعتبر أردوغان أن كفة انضمام فنلندا والسويد إلى “الناتو”، ومواجهة روسيا بكل القوى العالمية الممكنة، ومنها تركيا، ستزن أكثر بكثير من كفة ميليشيات “قسد” في ميزان واشنطن، وبالتالي ستضطر الأخيرة إلى الرضوخ والموافقة على خطته العسكرية تلك.
وافترض أن الوضع العسكري الذي تواجهه موسكو في أوكرانيا، وحاجتها لتركيا على أكثر من صعيد، قد تدفع روسيا إلى تقليص وجودها العسكري في سورية، وخصوصاً في المنطقة الشمالية الشرقية، وهو الوضع الذي اعتبره مثالياً للعودة إلى الخطة القديمة، لكن الأحداث لم تجرِ على هذا النحو فوق طاولات السياسة والميدان، إذ لم تستطع أنقرة الحصول على ضوء أخضر للقيام بهذه العملية، حيث ردت موسكو في الميدان مباشرة، واستقدمت تعزيزات عسكرية ملحوظة إلى المنطقة الشرقية، وخصوصاً إلى مطار القامشلي، ونقاط التماس على الحدود بين أرياف الحسكة وحلب والرقة، وزادت في الأيام الأخيرة من طلعاتها الجوية فوق المناطق التي تسيطر عليها الفصائل الارهابية الموالية لأنقرة في ريفي حلب وإدلب على وجه الخصوص، وقامت المقاتلات الروسية بإطلاق قذائف صاروخية فوق بعض تلك المناطق، في رسائل تحذيرية لأنقرة وأدواتها المحلية، كان أهمها الصاروخ الذي أطلق من بارجة بحرية روسية في الأول من حزيران الماضي، استهدف واحداً من أكبر مخازن الأسلحة شمالي إدلب أدت إلى مقتل العديد من قيادات وأفراد ميليشيا “فيلق الشام” التي ترعاها أنقرة.
يمكن اعتبار هذا الصاروخ الروسي المدمر أحد أهم رسائل النار الروسية لأردوغان في هذا التوقيت بالذات، وخصوصاً بعد تصريحات الرئيس التركي، عقب اجتماع برلماني في أنقرة، إذ قال: “إن تركيا ستبدأ مرحلة جديدة لتأمين عمق 30 كيلومتراً لحدودها مع سورية”، وإنها ستعمل على “تطهير تل رفعت ومنبج”، وستعمل خطوة خطوة في مناطق أخرى، وأكد أردوغان أن أنقرة “لا تنتظر إذناً من واشنطن”، وأنها “سترى من سيقف مع عمليتها الأمنية المشروعة تلك ومن سيعارضها”.
كلّ تلك المعوقات العسكرية والسياسية الدولية دفعت أنقرة إلى تأجيل العملية العسكرية بالطريقة التي كانت قد خططت لها. لكن يمكن القول، وبناءً على تحركات الميدان وقراءة التعليمات التركية التي صدرت للفصائل الارهابية العاملة في المنطقة إن أردوغان لم يتخل عن العملية أبداً، ولن تتوقف أنقرة عن ممارسة الضغط على واشنطن والغرب إلى أن تحصل على كل ما تستطيع من مغانم سياسية واقتصادية وتوسعية، لكن حسابات أخرى أكثر أهمية وقوة من الحسابات الغربية تخص الميدان السوري ستبقى عقبة أمام طموحات أنقرة، إذ لن تسمح دمشق وحلفاؤها بأي تغيير في الميدان الآن إلا بما يتوافق مع خطة دمشق وحلفها في تحرير كامل الأراضي السورية، وهي خطة ترى دمشق أنها تسير في مصلحتها على المدى المتوسط، وخصوصاً أن استعداداتها العسكرية متكاملة على جميع الجبهات في الشرق والشمال، وهي من جهتها، ترى أن الصراع في أوكرانيا ذاهب باتجاه فرض قواعد دولية جديدة ليست في مصلحة أعدائها.