السياسة الأمريكية وصبر الصين الاستراتيجي
عناية ناصر
دفعت إدارة جو بايدن منذ بداية هذا العام وعلى التوالي مبادرة “الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ” للازدهار، التي تستثني الصين، والشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار، وهو مشروع لمنافسة مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها الصين. من خلال قيامها بذلك، تحاول الولايات المتحدة جاهدة تنفيذ مخططها بتعزيز المنافسة الاستراتيجية ضد الصين في الممارسة العملية.
منذ إدارة باراك أوباما، قامت الولايات المتحدة بوضع سلسلة من الاستراتيجيات والمبادرات والإجراءات ضد الصين، بدءاً من استراتيجية إعادة التوازن لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، وإستراتيجية المحيطين الهندي والهادئ، وشبكة النقطة الزرقاء لتمويل البنى التحتية، إلى الحرب التجارية. ومع ذلك، لم تجد الجهود الكبيرة التي بذلتها الولايات المتحدة في هذا الصدد نفعاً، وانتهى الحال ببعضها إلى حالة من الفوضى، والبعض الآخر ذهب أدراج الرياح. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال الولايات المتحدة تعمل على الترويج لتصميمات جديدة لسياستها تجاه الصين، والتي تشكل دائرة فريدة من “المحاولات والفشل المستمر” في استراتيجياتها تجاه الصين. ولفهم مثل هذه الظاهرة، نجد ما يلي:
أولاً: إن سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين مدفوعة بشكل متزايد بالسياسات الداخلية المحلية، فغالباً ما تستند سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين إلى الاحتياجات السياسية المحلية، بدلاً من التقييم الدقيق لجدوى السياسة. على سبيل المثال، أصر ترامب على شن حرب تجارية ضد الصين، كان الهدف منها كسب الناخبين من الطبقة العاملة، وأصوات ولايات “حزام الصدأ”، وهو مصطلح يطلق على المنطقة الواقعة على جانبي شمال شرق الولايات المتحدة للإشارة إلى التراجع الاقتصادي وانخفاض أعداد السكان والاضمحلال الحضري نتيجة لتقلص القطاع الصناعي بها. أما بالنسبة إلى المدى الذي يمكن أن تساعد فيه الحرب التجارية في تحقيق المصالح الأمريكية والتكلفة التي ستدفعها الولايات المتحدة مقابل ذلك، فإن فريق ترامب لم يفكر في الأمر بعناية.
لقد أظهرت الحقائق أن الضرر الذي ألحقته الحرب التجارية بمصالح الولايات المتحدة أكبر بكثير من الضرر الذي لحق بالصين، حيث أدت الحرب التجارية إلى زيادة تكلفة المعيشة للمستهلكين الأمريكيين، وإلى ارتفاع التضخم، وبايدن يدرك كل تلك القضايا، لكنه يريد إرضاء النقابات العمالية، ولذلك قرر الاستمرار في الخطأ.
ثانياً: غالباً ما يبالغ صانعو السياسة في تقدير قدرات الولايات المتحدة الخاصة. على سبيل المثال، أعلن بايدن عن خطة الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية، والاستثمار في قمة مجموعة الدول السبع، مدعياً استثمار 600 مليار دولار في البنية التحتية للدول النامية. لكن في الواقع، الولايات المتحدة لديها مشاكل البنية التحتية الخاصة بها في الداخل، مع وجود عدد غير قليل من البنى التحتية في حالة سيئة لفترة طويلة، وعليه كيف يمكن للولايات المتحدة أن تستثمر بهذا القدر لمساعدة البنية التحتية للدول الأخرى؟
ثالثاً: إن الولايات المتحدة غير مستعدة لمواجهة الواقع، وكثيراً ما تحاول الاستخفاف والتقليل من شأن الصين. فمنذ نهاية الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة لفترة طويلة في موقع مهيمن ونشط في علاقاتها مع الصين بفضل قوتها الشاملة، لكن على مدار العقد الماضي، مع التحسن المطرد للقوة الوطنية الشاملة للصين وتطور دبلوماسية القوى الكبرى، أصبحت الصين أكثر نشاطاً في علاقاتها مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن صناع السياسة في واشنطن لم يدركوا ذلك بالكامل، وغالباً ما يستخفون ويخطئون في تقدير المواقف لأنهم غير مستعدين لقبول حقيقة أن الصين تنهض.
لقد صاغت إدارة بايدن استراتيجيتها الخاصة بالصين، والتي يمكن تصنيفها بثلاثة عناصر أساسية، وهي المنافسة والمواجهة والتعاون، بتوهم إنشاء علاقة ثنائية تتماشى مع مصالح الولايات المتحدة، لكن الصين تحافظ على رباطة جأشها الاستراتيجية ولا تتناغم مع إيقاع الولايات المتحدة، فالصين تتبنى “قائمة دبلوماسية” وتحث الولايات المتحدة على معالجة مخاوف الصين المشروعة، وتعمل بنشاط على تطوير العلاقات مع أطراف ثالثة، وتجميع المصادر الدبلوماسية للمنافسة مع الولايات المتحدة. في المقابل، يبدو أن تصميم سياسة إدارة بايدن تجاه الصين أكثر تعقيداً من تصميم عهد ترامب، لكنه وصل إلى طريق مسدود عملياً، لأن التقليل من تقدير الصين وإساءة تقديرها قد تسبب في تعثر سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين، وبالتالي لا يمكنها أن تذهب بعيداً أكثر من ذلك.
حتى الآن، ستواصل الإدارة الأمريكية هذا المسار الخاطئ في سياستها تجاه الصين، والتي تحددها السياسة الداخلية للولايات المتحدة، والثقافة الاستراتيجية، والفجوة بين أهدافها وقدراتها. وبقدر ما يتعلق الأمر بالصين، من الضروري الانتباه إلى تصميم سياسات الولايات المتحدة المختلفة تجاه الصين، لكن هذه التصاميم ما هي في النهاية أكثر من مجرد تمنيات.
وبصفتها قوة مهيمنة، يتعين على الولايات المتحدة استكشاف كيفية التعامل مع قوة صاعدة مختلفة تماماً عنها من حيث الأنظمة السياسية والقيم والثقافة والعرق، لأن ارتكاب الأخطاء من قبل الولايات المتحدة أمر طبيعي، تحتاج الصين إلى التحلي بالصبر الاستراتيجي.