مائة عام على صك الانتداب البريطاني.. مطاعن قانونية
في الرابع والعشرين من شهر تموز الفائت، يكون قد مر مائة عام على صدور صك الانتداب الصادر عن عصبة الأمم على فلسطين. وكانت العصبة التي تشكلت عقب نهاية الحرب العالمية الأولى – لتكون أول شكل من أشكال النظام الدولي الذي فرضته الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى – قد أقرت عدة أشكال من الصيغ الاستعمارية المخففة من قبيل الانتداب والوصاية، وكان أولى ضحايا تلك الصيغة هم العرب ولاسيما الشعب الفلسطيني الذي وضعت دولته الخارجة عن السلطنة العثمانية تحت وصاية بريطانية كانت الغطاء للمشروع الصهيوني الهادف للسيطرة على فلسطين. ومع أن قرار وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني صدر عن العصبة، إلا أن ثمة مطاعن قانونية جسيمة شابته وتضمنته، فالانتداب أساساً يفترض وجود حكومة فلسطينية يتم التعامل والتنسيق معها من الدولة المنتدبة، ولكل منهما صلاحيات واضحة ومحددة، ويقتصر دور الدولة المنتدبة على النصح والإرشاد لتحقيق الأهداف المتوخاة من الانتداب. وبالعودة للواقع، فإن ذلك لم يحصل بل أن ما حدث هو تعاون السلطة المنتدبة مع “الوكالة اليهودية” التي تم الاعتراف بها في صك الانتداب، إضافة إلى تضمينه فقرة تتعلق بتنفيذ وعد بلفور، ما يعني أن الانتداب ما هو إلا غطاء وحاضنة لشرعنة قيام كيان يهودي في فلسطين، وليس الأخذ بيد الدولة الفلسطينية لتحقيق إدارة شاملة لمن خرج من ربقة السلطنة العثمانية.
يتضمن صك الانتداب في مادته الخامسة نصاً يقول: تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن ضمان عدم التنازل عن أي جزء من أراضي الدولة المنتدبة من أراضي فلسطين إلى أية جهة أجنبية، وهذا لم يحصل؛ إضافة إلى أن صك الانتداب تضمن بشكل صريح بنداً يقول بتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين، ويشير إلى الفلسطينيين بوصفهم أهالي وليسوا مواطنين، وهذا يعكس نوايا مبيتة لتجاهل وجود شعب فلسطيني .
ونصت عهدة العصبة على أن السيادة تبقى للدولة المعنية بالانتداب عليها، وليس للدولة المنتدبة، ولا لعصبة الأمم، ويكون حق اختيار الدولة المنتدبة هو خيار الشعب الفلسطيني، وهذا لم يحصل، حيث كان قد تقرر في مؤتمر سان ريمو 25 – 4 – 1920 وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني. وعلى خلفية ذلك، وما يشكله من انتهاك للعهدة، فقد استنكر الأمين العام للعصبة في مذكرة له إلى مجلس العصبة بتاريخ 30 – 7 – 2022 جاء فيها “إن توزيع الدول الكبرى للانتدابات ليس قانونياً ولا يمكن الاعتراف به، وقد أيده في ذلك المسيو هيماش مندوب بلجيكا في العصبة، حيث أعلن أن قيام المجلس الأعلى بتوزيع الانتدابات يخالف عهد العصبة وأحكام القانون. كما أكد الفقيه القانوني فوشيل أن اختيار الدول المتحالفة الكبرى بريطانيا للانتداب على فلسطين قد جرى خلافاً لأحكام ونص المادة 22 من ميثاق العصبة، فهو باطل من الوجهة القانونية.
وإلى جانب تلك المخالفات، ثمة مسألة أخرى تتعلق بقبول “إسرائيل” عضو في الأمم المتحدة، حيث كان مشروطا بتعهدها بتنفيذ القرارين 181 و194، حول تقسيم فلسطين وحق العودة، الأمر الذي لم يحصل، إضافة إلى عدم التزامها بتنفيذ القرارين 242 و338 المتعلقين بالانسحاب من الأراضي التي احتلت خلال عدوان حزيران 1967.
مما سبق، يبدو واضحا أن مؤامرة كبرى تعرض لها الشعب الفلسطيني انتهت بسرقة أرضه واستيطانها من قبل جماعات يهودية جيء بها من أوروبا لتكون بؤرة استيطانية واستعمارية شكلت عصبة الأمم غطاء لها لجهة شرعنة ما سمي انتداباً لم يكن في جوهره إلا حاصنة وفرت بيئة ومناخاً وأرضية لولادة كيان غير شرعي اسمه إسرائيل تنفيذا لوعد بريطاني ألصق بـ “بلفور”، وزير خارجية ناطق باسم الحكومة البريطانية، وجلالة الملك، ما يعني أن بريطانيا بوصفها دولة منتدبة خالفت صك الانتداب وعهدة عصبة الأمم، وتتحمل المسؤولية التاريخية والقانونية والاخلاقية لما حل بالشعب العربي الفلسطيني من مآس وضياع لوطنه وتشريده ما يوجب عليها التعويض للفلسطنيين وتصحيح الخطأ عن الجريمة التاريخية والمستمرة بحق ذلك الشعب وممارسة نفوذها بوصفها عضواً دائماً في مجلس الأمن لإعادة الحق إلى أصحابه.
وهنا يمكن للمؤسسات الفلسطينية السياسية والشعبية ومنظمة التحرير بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني الدفع بذلك في كل المحافل، كما يمكن للجهات القانونية الفلسطينية وكل المتضررين من ذلك إقامة الدعاوى في المحاكم الدولية والخاصة لإلزام بريطانيا القيام بتنفيذ كل ما يترتب عليها من مسؤوليات وحقوق سياسية ومدنية .
د. خلف المفتاح