حسام الدين بريمو.. رحيل على جناح اللحن
سلوى عباس
بكلّ ما يحمل في روحه من دماثة ولطف، كان حسام الدين بريمو يطلّ علينا في القسم الثقافي في الجريدة وابتسامته تشرقُ من عينيه مبادراً بإلقاء التحية والسؤال: “أين فنجان قهوتي، أخشى أنكم لم تحسبوا حسابي”، ومن ثم تبدأ حواراتنا التي تمتد ساعات وساعات حول الفن والموسيقا التي شغف بها وما يتعلق بها من قضايا حياتية، وكم اختلفنا واتفقنا حول الكثير من تلك القضايا!.
حسام الدين بريمو ذلك الرجل الذي امتطى صهوة اللحن، يدافع عبره عن أصالة موسيقا أنتجت عالماً معرفياً وحضارياً، فكان جزءاً من نسيج هذا العالم الذي بذل كلّ جهده ليكون شخصاً فاعلاً فيه، فحكايته مع الموسيقا هي حكايته مع الحلم الذي رافقه منذ الصغر، هذا الفن المضمخ بروحانية تسمو بالذات فوق ماديات الحياة، وتطلقها من أسر التفاصيل المملّة إلى عالم الجمال الرحب، إذ درس فنون العزف في المعهد العالي للموسيقا بدمشق، ثم أتقن الغناء الكلاسيكي في فترة التسعينيات، إلى أن أصبح مدرّساً للغناء الكورالي والعزف الموسيقي، وأسّس خمس جوقات غنّت مقامات مختلفة من التراتيل والأنغام والترانيم، وقد آمن بالعمل الجاد، فأعطى كلّ ما بوسعه ساعياً لإرساء موسيقا ينتشر عبقها في العالم، لأن الثقافة من وجهة نظره تعبّر عن حضارة البلد الذي تنشأ فيه بكل أبعادها المادية والروحية والفكرية، وحضارة الأمم تُقاسُ بما تعطي هذه الأمم من إبداع، سواء في المجال العلمي كالاكتشافات والاختراعات أو في المجال الروحي كالإبداعات الفنية والأدبية، وأنه من الضروري الاطلاع على فنون الشعوب الأخرى انطلاقاً من الخصائص المميزة لكلّ أمة، والتي يمكن أن تنتقل إلى العالمية حين تجدُ من يتبناها ويعيد خلقها.
حمل المايسترو بريمو على عاتقه مشروع الغناء الجماعي في سورية، وكانت آراؤه حول الغناء مثيرة للجدل، إذ كان يفضّل الغناء الجماعي، فأسّس جوقات بأعمار مختلفة منها جوقة “لونا” وتضمّ خمسة كورالات وأوركسترا، إضافة إلى جوقات أخرى كـ “قوس قزح” و”ألوان” و”ورد”، وكان يعتبر أن “الحنجرة الفردية لا تستطيع إظهار الجمال الذي تُظهره الحناجر الجماعية، وأن الغناء الفردي يعزّز الأنا ومبدأ إقصاء الآخر، فيشعر المغني أنه أهم شأناً من الآخرين الذين يعزفون معه، على الرغم من أنّهم قد يكونون أعمق معرفة وفهماً بالموسيقا من هذا المغنّي نفسه”، فضلاً عن رؤيته أن “الغناء الجماعي يوحّد الأشخاص ويعطي إحساساً بأن الجميع متساوون، فيشكلون فرقة جميلة تقدم الجمال”. واستطاع الراحل عبر كلّ الجوقات التي أسّسها وأدارها ودرّبها أن يحقق أعمالاً موسيقية غنائية تصل بمستواها الفني لمرتبة العالمية نوعاً وموضوعاً، مبيناً “أن ما تحقق اليوم يفوق التوقعات بالقياس للظروف المحيطة ببلدنا والإنسان السوري”.
وعن التنوّع الموجود في الجوقات الخمس واللغات المختلفة التي تغنّي بها، أشار بريمو: “نحن قرّرنا منذ البداية أن نكون منوّعين بالموسيقا التي نقدّمها، فأول جوقة أسّسناها كانت «قوس قزح» لنقول إننا سوف نقدّم ألواناً مختلفة من الغناء، ولسنا مضطرين أن نقدّم لوناً واحداً، فنحن جماعة بشرية تحمل رسالة جمال إلى أمة كان فيها جمال وأخذ بالتضاؤل”.
هكذا.. ورغم المشوار الموسيقيّ عالي المستوى رفع حسام الدين بريمو أشرعته باتجاه مغاير لاتجاهاتنا كما كثير من المبدعين الذين سبقوه، إذ دفعة واحدة توقف ينبوعه عن التدفق، ففقده خسارة لوطن يعوّل على أبنائه بناء المستقبل الواعد للأجيال القادمة، لكن هو القدر يطلق حكمه دون أن يسمح بكلمة تبقى ذكرى قبل الرحيل.