كان المطلوب اغتيال “الروح الروسية”..
البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي:
تُجمع أغلب التحليلات والدلائل على أن جريمة قتل داريا دوغين، ابنة الفيلسوف والمفكر السياسي الروسي، ألكسندر دوغين، بعبوة ناسفة انفجرت بسيارتها بضواحي موسكو قبل أيام، كان الهدف منها تصفية والدها.
وبغض النظر عمّا كشفته تحقيقات الأمن الفيدرالي الروسي من أن عملية الاغتيال قامت بها الأوكرانية ناتاليا فوفك، التي كانت عضواً في الحرس الوطني الأوكراني وكتيبة “آزوف” النازية، فإن العملية بحدّ ذاتها وإن كانت لمصلحة المخابرات الأوكرانية، فإنها من جهة ثانية تحمل بصمات كتيبة آزوف النازية المدعومة أصلاً من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “سي آي إيه”، وقد تم الكشف عن هوية الفاعل خلال 24 ساعة، ما يؤكد أن الفاعل كان تحت أنظار الأمن الروسي، حيث استأجرت المواطنة الأوكرانية مع ابنتها شقة في موسكو في البناية التي تعيش فيها دوغين.
المهم هنا، وهو عنوان حديثنا، أن ألكسندر دوغين الذي كان ينبغي أن يموت لولا تدخّل القدر في اللحظات الأخيرة بركوب ابنته السيارة المفخّخة بدلاً منه، كان هدفاً لحملة شيطنة واسعة من الغرب، حيث تداولت وسائل الإعلام الغربية سيرة هذا الرجل وأفكاره، بطريقة مثيرة جداً توحي بحجم الاهتمام بهذا الرجل الذي يعدّه الغرب عقل بوتين، فهذه قناةbbc البريطانية تعرّف الرجل بأنه باحث سياسي اشتهر بـ”راسبوتين بوتين” و”عقل بوتين”، والمستشار السياسي والعسكري للكرملين وفيلسوف القومية الروسية، وتعدّه من أصحاب الآراء المثيرة للجدل، كما أنه ضد الإنترنت وسيطرة التكنولوجيا الحديثة، ولديه آراء متحفّظة بشأن اللاهوت والأديان.
ويمكن الإلمام بأهمية هذه الشخصية، بتصريح كان قد صدر في عام 2016 من الخبير السياسي الأمريكي غلين بيك، حيث وصفه بأنه “أخطر رجل في العالم”.
وهو متحصّل على ثلاث شهادات دكتوراه في الفلسفة، وفي العلوم السياسية، وفي العلوم الاجتماعية، ويقود الحركة الأوروبية الآسيوية (الأوراسية)، ومؤلف “النظرية السياسية الرابعة”، التي يرى فيها هذا الفيلسوف الخطوة اللاحقة في التاريخ السياسي العالمي، بعد الثلاثة الأولى: الليبرالية والاشتراكية والفاشية.
هذا الفكر الذي يتقاطع كثيراً مع أفكار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو الهدف الحقيقي لعملية الاغتيال التي جرت، والتي كان ينبغي أن تُجهز عليه، وقد أشارت نتائج استطلاع للرأي العام في عام 2009، أجراه موقع “Openspace”، وشارك فيه أكثر من 40 ألف شخص، إلى أن دوغين يحتل المرتبة الـ36 بين أكثر مفكري روسيا نفوذاً.
وأدرجت مجلة “فورين بوليسي”، هذا الفيلسوف والسياسي الروسي في عام 2014 في قائمة أفضل 100 مفكر عالمي من فئة “المحرّضين”، كذلك تم إدراجه في قائمة عقوبات الاتحاد الأوروبي عام 2014، ويخضع منذ عام 2015 لعقوبات الولايات المتحدة وكندا أيضاً.
القناة البريطانية التي لا يخفى أصلاً ارتباطها بجهاز المخابرات السرية البريطاني إم آي 6، ركزت على أن دوغين يرى أن هناك 3 نظريات سياسية أثرت في العالم في العصر الحديث وهي الليبرالية والشيوعية والفاشية، وأن الليبرالية انتصرت على الفاشية عام 1945 وعلى الشيوعية عام 1991 إلا أنها من وجهة نظره تواجه أزمة قاتلة حالياً، وتواجه الموت المحتوم لأنها تحاول “تحرير نفسها من التفكير العقلي وقيود العقل” التي ينظر إليها الليبراليون على أنها “فاشية في ذاتها”، حيث يرى دوغين أن النظريات الثلاث ميتة ويطرح “النظرية السياسية الرابعة” التي لا تركّز على الفرد أو العرق أو القومية، وإنما تركز على الوعي الذاتي الإنساني الذي همّشته التكنولوجيا.
ومن هنا، فإن العالم لابد أن يكون متعدّد الأقطاب بدلاً من قوة عظمى واحدة هي الولايات المتحدة، وهذا طبعاً يعارض التوجّه نحو إقامة “حكومة عالمية” تقودها النخبة العالمية، التي تضمّ مديري الشركات العالمية الكبرى، “الذين يسعون لحرمان الناس من الشعور بالكبرياء وقهرهم أمام متطلبات شركاتهم”.
وكان دوغين قد تنبّأ بأن الحرب بين روسيا وأوكرانيا “حتمية” ودعا الرئيس الروسي، إلى التدخل العسكري في شرق أوكرانيا “لإنقاذ السلطة الأخلاقية لروسيا”، ووُصف بأنه العقل المدبّر وراء ضمّ بوتين لشبه جزيرة القرم.
وأعلن أن الخطوة التالية هي التدخل العسكري في شرق أوكرانيا، الذي يسمّيه بانتظام نوفوروسيا (روسيا الجديدة)، وهو تعبير استخدمه بوتين أيضاً.
وكان دوغين يعتقد أن “الروح الروسية” قد أيقظها الكفاح الانفصالي هناك، الذي أطلق عليه اسم “الربيع الروسي”.
وبالنظر إلى هذا الفكر الذي يحمله الرجل، والذي يعدّه الغرب بمجمله العقل المدبّر لكل ما يقوم به الرئيس الروسي ضد مبادئ الغرب القائمة على الهيمنة ونهب ثروات الشعوب وتفضيل الجزء الشمالي من العالم على جنوبه، وكذلك حصر القوة والنفوذ في الغرب، بل تحويل حلف شمال الأطلسي “ناتو” إلى القوة الضاربة الوحيدة والمسيطرة على العالم، يصبح منطقياً التفكير في إقصائه والتخلّص منه، ظناً منهم أنهم يستطيعون باغتياله دفن الفكرة التي يعمل بوتين على تحقيقها نهائياً، وهذا بالضبط ما كانت تسعى إليه أجهزة الاستخبارات الغربية مجتمعة وعلى رأسها الأمريكية والبريطانية، وليس فقط جهاز المخابرات الأوكراني الذي اقتصر دوره على التنفيذ.
ومن المصادفات المدهشة والغريبة أن الفيلسوف الروسي قبل عام واحد بالضبط من مصرع ابنته، كتب في 20 آب 2021، في صفحته على شبكة التواصل الاجتماعي “فكونتاكتي” يقول فيما يشبه النبوءة: “ما لا يقتلني سيقتل شخصاً آخر”، ومن غرابة الأقدار أن الشخص الآخر كان ابنته داريا!.
إضافة إلى كل ذلك، كان لهذا الفيلسوف رأي مثلاً في الثورة الإسلامية في إيران التي عدّها ثورة واسعة الأبعاد لها انعكاسات وتأثيرات عالمية، وقال: إن هذه الثورة مفهومة جداً بالنسبة لنا نحن الروس ونحن نفهم كل أبعادها في مجال العمل.
كذلك تأثر بسفك دماء الجنرال قاسم سليماني، وعدّ ذلك مؤشراً على عداء المسيح الدجال لقوى أبناء النور، حيث أصبحت حرب نهاية الزمان المقدسة فرصة عظيمة وامتيازاً لأن دماء هذا البطل أيقظت دماء مئات الأبطال الآخرين.
نعى الرجل ابنته بكلمات مؤثرة، مشيراً إلى أن أول كلمة نطقت بها كانت “روسيا”، ما يعني أنه يشير إلى أهم الأسباب التي تسبّبت باغتيالها وهي عشقها لهذا البلد وإيمانها بعظمته بكل ما يجسّده حالياً من أفكار في مواجهة النزعة المادية الأحادية القائمة، داعياً إلى الحفاظ على توجّهه الديني والسياسي.
وقد جاء تصريح البيت الأبيض حول الحادثة باهتاً على غير عادة المسؤولين الأمريكيين في مناسبة كهذه، حيث قال منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي، في تعليقه على مقتل الصحفية: إن مثل هذا النوع من العنف غير مقبول ضد أي شخص.
وأكد كيربي في حوار مع شبكة “سي إن إن” أن الولايات المتحدة تراقب الوضع عن كثب، لكن ليس لديها معلومات إضافية حول دوافع ما حدث أو المسؤولين.
وبالمحصلة، لا يمكن النظر إلى العملية على أنها مجرّد عملية اغتيال عادية يتم فيها التخلص من شخص لأنه يتحدث بالأفكار التي ذكرناها سابقاً، وإنما كانت موجّهة إلى الفكر الذي يحمله الرجل إذا ما تمّت بالفعل، وهي من جهة أخرى إرهاب فكري، وليست إرهاب دولة، لكل من يحمل هذه الأفكار ويؤيّدها وليس فقط للفيلسوف الروسي على اعتبار ما افتُرض أن يتم، فالموضوع هنا موضوع اغتيال مشروع على مستوى العالم، مشروع سيحدّد طبيعة العالم الجديد الذي تسعى الدول الغربية بكل ما أوتيت من قوّة لمنعه، وبالتالي فإن الاغتيال كان جزءاً لا يتجزّأ من الحملة الغربية الواسعة على روسيا لمنعها من قيادة عالم متعدّد الأقطاب يكون لقارة أوراسيا دور القيادة فيه.