انتخابات محلية تؤسس لـ “دمقرطة” عملية إعادة الإعمار
بسام هاشم
الآن، وقد انتهت انتخابات الإدارة المحلية، وبدأ الإعلان عن النتائج، يبدو مهماً أن نعي جميعاً أبعاد إنجاز هذا الاستحقاق ودلالاته ومكانته، والرهانات والأهداف المعلقة عليه، في مجمل حياتنا المشتركة واليومية، وفي اللحظة الراهنة هذه من مسيرتنا الوطنية المقاومة؛ فسورية ما بعد كسرها الهجمة الإجرامية الأطلسية والعثمانية الجديدة والوهابية البترو دولارية.. وسورية ما بعد استعادة زمام المبادرة، وبدء الدخول الصعب في طور التعافي الأمني والاقتصادي.. وسورية التي يمكنها أن تعزي نفسها – ولو على سبيل الواقعية السوداء – بأن ما خسرته جراء هذه الحرب الوحشية والشرسة إنما يمكن أن يوضع – بطريقة ما – في الخانة الافتراضية لفاتورة عملية تحديث شاملة، والتكلفة غير المباشرة لإعادة بناء بنى تحتية كانت استنفدت، أساساً، ومنذ أكثر من عقد، عمرها التشغيلي بالكامل، فيما لو كان تم ذلك بقرار ذاتي، وضمن ظروف طبيعية!!.. سورية هذه – التي لم تمت، ولم تتحطم، ولم تنكسر، ولم تئن، ولم تصرخ، ولم تحن ظهرها، ولم تتوسل، ولم تتسول، ولم «تكفُر» – لن تقبل، ولا يمكن أن تقبل، بعد كل تدمير وخراب نهاية العالم هذه، إلا أن تستكمل حلم التحديث الذي كانت دشنته مع السيد الرئيس بشار الأسد، مطلع الألفية، وأن تقفز فوق «الانقطاعة الزمنية» التي تسببت بها مؤامرة الحرب الجبانة، وأن تشمر عن ساعديها مرة أخرى، لكي تنهض كـ «نمر اقتصادي» حقيقي من نمور النظام العالمي الجديد، وعالم ما بعد الأحادية القطبية. وللحقيقة، فإن مثل هذا الطموح ليس ضرباً من الوهم، وليس نوعاً من التفكير العبثي، كما قد يعلق بعضهم، بل هو حقيقة متاحة، ومشروع في متناول اليد، فسورية لن تكون أقل من بلدان كثيرة طحنتها الحربان العالميتان الأولى والثانية، أو دفعت ثمناً باهظاً للأطماع الاستعمارية والاستعمارية الجديدة. والشعب السوري يمتلك خصائص فريدة في التكيف والامتداد والتجذر، وبالأساس فإن ثقافتنا الحضارية والدينية قائمة تاريخياً على الانبعاث والتجدد. وإذا شئنا أن نكون أخلص إلى الواقع، فإن إنساننا لم يتوحّش، وقيمنا الأخلاقية لم تهبط، ولا يزال رصيدنا الروحي مفعماً بالسمو والرقي والوجدانات العالية، وطبائع شعبنا لم تتدهور، فهو ما زال شعب «الأمل والعمل»، كما كان دوماً، سواء في نكباته أم انتصاراته!
ولن نكون منصفين، بالطبع، إن أغفلنا صدى ذلك كله في انتخابات المجالس المحلية التي جرت، أولاً، «في مواعيدها الدستورية المحددة»، وهي العبارة الاصطلاحية («الخطاب») التي تحيلنا مباشرة إلى ثبات قوة الدولة السورية التي أرادوا أن يمزقوها إرباً إرباً، وكانت الهدف الأول لمؤامراتهم الدنيئة، المعلنة وغير المعلنة، ولكنها (الدولة السورية) تمكنت من الحفاظ على كيانيتها السياسية والحقوقية والدستورية لتحافظ، بالتالي، على وحدة شعبها الذي كانوا أرتأوا له أن يتشكل في كانتونات وشراذم مناطقية وعشائرية ومذهبية وطائفية؛ بل واستقدموا المرتزقة الأجانب لتغذية وإشهار النزعات الانفصالية. ولكن، ولأول مرة منذ بدء الحرب، اقترع السوريون من الجنوب إلى الشمال، وفي كل المحافظات والمدن، وحتى في مناطق كثيرة ما زالت تحت سيطرة المجموعات الإرهابية والعميلة.. إن توسع البقعة الجغرافية التي احتضنت مراكز الاقتراع شكلت دليلاً كاشفاً على اتساع رقعة إمرة الدولة السورية؛ أما أولئك الذين تقاطروا منذ الصباح الباكر للإدلاء بأصواتهم – قادمين من المناطق الخارجة عن سلطة الدولة – فقد قطعوا الشك باليقين إزاء أحد أهم الدروس المستفادة والمستوعبة، وهو أن هناك شرعية واحدة، هي في دمشق وليس غيرها، وأن الدولة هي الملاذ النهائي لجميع السوريين على اختلاف انتماءاتهم، وأن «التغريبة السورية» تشارف اليوم على الأفول النهائي وسط وعي حاد ومتطور ومتجذر، ووسط يقين مطلق، بأن المؤسسات الوطنية، على اختلاف مهامها ووظائفها ومستوياتها، هي «أعمدة الهيكل» التي يجب أن تبقى قوية وثابتة، وأننا لن ننتحر كما شمشون، لأن وجودنا كهوية مرهون بوجود هذه المؤسسات، وقوتنا كشعب ومجتمع مشروطة بقوة دولتنا – صخرتنا.. صخرة بولس.
ما تحتاجه سورية اليوم، وما تبنيه بهدوء وبتأن، وما علينا جميعاً أن نساهم، بالتالي، في بنائه وإعادة ترميمه من مختلف جوانبه، هو الدولة القوية القادرة على تحصيل حقوق شعبها، وحقوقها بالمقابل، بقوة المشاركة الشعبية.. دولة تستعيد سيادتها على أرضها بفضل تضحيات جنودها البواسل، وتوسّع رقعة حضورها بقوة العودة الطوعية، وتؤسس لـ «دمقرطة» عملية إعادة الإعمار من خلال مجالس محلية منتخبة.