مجلة البعث الأسبوعية

 “نديم محمد الشاعر المتمرد” إباء النبلاء ومروءة الفرسان

جمان بركات

“عشت حياتي منصفاً للبحار، والصديق والقريب، ولكنني لم أُنصف من أحد”. هذه الكلمات للشاعر نديم محمد بدأ فيها الكاتب منذر يحيى عيسى كتابه الصادر عن دار المتن العراقية بعنوان “نديم محمد.. الشاعر المتمرد”.

لم يخف الكاتب في مقدمته الخوف من مقاربة العملاق نديم محمد الذي تعرف عليه منذ طفولته عندما نسخُ والده الشيخ يحيى عيسى دواوينه وقراءاته فيها، كما انتابه شعور الخوف من الدخول إلى عالمه الشعري والذاتي، وخوف أخر من عدم قدرته على إنصاف هذا العملاق، بعد ما كتبه وصرح به من عدم إنصافه من أحد.

نشأة نديم محمد

ولد نديم محمد في قرية “عين الشقاق” عام 1909، وكانت طفولته تشبه طفولة أبناء الريف، وتعلم عند شيخ الكتاب وكان متفوقاً على أقرانه والأول في قراءة القرآن الكريم، وقد نطق بالشعر في سن التاسعة، ولأن ملامح الذكاء والتفوق ظهرت في مراحل تعليمه الأولى دفعت والده إلى الحرص على إتمام تعليمه حتى أعلى المراحل.

لقد تغنى نديم محمد بقريته في شعره كثيراً، يقول عنها:

“ضيعتي

قصة الينابيع

والطير

وهمس الغصون

للنسمات

ضيعتي

لوحة من الفجر والليل

وناي الأعراس والرقصات”.

في عام 1926 أرسله والده إلى مدرسة اللاييك العلمانية في بيروت، وهناك أعد قصيدة ظهرت فيها مشاعره الوطنية والقومية، وصعد المنبر في 6/5/1926 ليلقيها في ذكرى شهداء العرب، لكن أحداً لم يأبه له لصغر سنه ربما، وبتحريض من أحد الشعراء قال: “سيتعبنا هذا الولد”، وبقي مستمراً في الإلقاء وقال أبيات رائعة تدل على تيقظ الوعي القومي عنده، وتدل أيضاً على فهم دقيق للأحداث، فحسب رأيه هذه المحن تدفعنا للعمل وليس للنواح مع الإشارة إلى أن سورية ولبنان كانتا في تلك الفترة تحت الانتداب الفرنسي.

سافر إلى فرنسا عام 1927، وحصل على الشهادة الثانوية منها، ودرس الأدب الفرنسي في جامعة “مونبيليه” وحصل على الإجازة، وتدل بعض القصائد التي كتبها في تلك الفترة أنه حصل على ما شاء من علوم معرفية، واستمد من مرتكزات الثقافة الغربية أساساً للإبداع، يظهر في شعره لاحقاً رومانسية تضاهي ماكتبه شعراء الفرنسية ولكنه لم يفارق ملذاته، ومايرغبه من الهناءة والجمال والنساء.

العودة إلى الوطن والحب

كتب نديم محمد بحسرة وألم بعد عودته إلى الوطن مقطوعة بعنوان “ألم”، وكان يشعر دائماً بالألم والقلق والوحدة والغربة خصوصاً وهو بين أهله وناسه، وقضى عدة سنوات في قريته بعد عودته من فرنسا، ووصف حالته في مقدمة ديوانه “فراشات وعناكب”، وعبر في قصيدته “شرف التحدي” عن حالات الشموخ والكبرياء والاعتداد بالنفس رغم كل حالات المرض والعوز والحاجة، واستمر متحدياً عزلته وما يحسه من نقمة الناس على مواقفه في قصيدة “توأم الخداع”، وخاطب الأقارب طالباً تركه للشعر فقط، وفجأة بدأت تلوح بارقة أمل، إنه الحب الذي يطرق باب قلبه الموحش، جنية يرى في عينيها سحراً يقوده إلى نعيم يراه قادماً لكنه يختفي ويكتب في قصيدة “عصا الجنة”:

الحسن قيثارى وسحر المى    خمري، ومعنى العيش ما لذّ لي

فـرحـــان للدنيــــا وآلائـــها      للفـــجر لـلريحـــان للجــــدول

جنية مرت عصــا سحرهـا      عــلى فــؤاد مــوحــش مقـــفل

لكن هذه الجنية سرعان ما تغيب ويشعر بالخيانة وهي تأوي إلى مكان آخر ترى فيه سعادتها، ومن فرط خيبته يشبه المرأة بالحية.

الفكر القومي

يحمل نديم محمد فكراً تقدمياً وهماً قومياً وهو الشاعر المتوقد حساً ورهافة مشاعر، رأى في جمال عبد الناصر تجسيداً لصلاح الدين الأيوبي والظاهر بيبرس وخالد بن الوليد وتفاعل مع أحداث الثورة المصرية وأنشد لها، وقد زاد نضاله توهجاً بفشل العدوان الثلاثي على مصر، وكانت قصيدته “الثورة الخضراء”، وبعد قيام الوحدة بين سورية ومصر أنشد قصيدته “مولد المجد” وكانت القصيدة في مئة وعشر أبيات، ولم يمض عامان حتى تراجعت مواقف عبد الناصر، وصعقت تلك الممارسات نديم وأصابته بالخيبة فقاده ذلك إلى هجائه بقصيدة الملحمة “فرعون”، ولم تظهر مثيلتها ملحمة من ملاحم الهجاء في الشعر القديم والحديث.

في عام 1963 زار دمشق بعد أن استقر في طرطوس بعيداً عن عائلته، وفي دمشق تعرضت مخطوطاته للسرقة من قبل أشخاص لم يعجبهم صموده، ورغم ذلك لم ينالوا من عزيمته وحاولوا شراءه وأغروه ولم يلن فالشعر مبدأ ورسالة وأشعاره ومايكتب ليس للتجارة.

لقد استمر نديم بنضاله الوطني والاجتماعي مبشراً بالثورة على عهود الإقطاع والتسلط وجاءت الثورة ورغم ذلك لم يجد المؤلف أي شعر يتناول هذا الحدث بشكل مباشر.

المرض والغزل

في السبعينات، انتشر وبغزارة الشعر الغزلي عند نديم محمد، وهو العاشق الدائم المتعبد في محراب الجمال، وربما كانت استرجاعاً للذكريات وربما تكون صلاة حنين وربما محاولة لاستمرار الشباب، ورغم ذلك غزل نديم في أي عمر هو غزل مبدع قل نظيره بين معاصريه ربما لجرأته اللامحدودة.

بدأت أعراض السل تظهر على نديم محمد عام 1948 وتطور في العام الذي يليه ليصبح سرطاناً وقد قاوم المرض بالشعر وأصر على الحياة والشفاء، وللأسف عاد إليه المرض في بداية السبعينات واضطر الأطباء إلى استئصال إحدى رئتيه.

وأكمل نديم حياته وشهد انتصارات حرب تشرين التحريرية وهو في طرطوس ووصف سقوط طائرة العدو في البحر، وذلك بعد إصابتها بصاروخ فتغمره الفرحة فيقول:

شيطانة وحش يهيج زنبرها    خوف الرياح فما تريد هبوبا

ترقى وترقى مارداً متشهقاً   تطوي جوانحها الرحاب وثوبا

الإيمان

اُتهم نديم محمد بالكفر وعدم الإيمان، وها هو في قصيدته “يارب” يؤكد إيمانه بخشوع وتوسل للباري عز وجل، وكان قد بلغ السبعين من العمر إلا انه لا يزال في ذروة عنفوانه وكبريائه رافضاً الخضوع والتزلف والانحناء، مصراً على أنه الموت القادم خالد بشعره.

توفي الشاعر نديم محمد في 17\1\1994 عن عمر ناهز الستة والثمانين عاماً، وبعد وفاته منحه الرئيس الراحل حافظ الأسد وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى تقديراً لعطائه الشعري ولتأثيره في الحياة الأدبية، وقامت وزارة الإعلام بطباعة الأعمال الشعرية الكاملة لنديم محمد.

في الختام

وفي النهاية يمكن القول أن الدراسة الأدبية التي قدمها منذر يحيى عيسى عن الشاعر الراحل نديم محمد تستحق القراءة، فقد أضاء بشعره جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية، وارتقى بالغزل والرثاء والمديح والخمرة إلى مصاف الشعراء العالميين، وقد آلمه إخفاق المشروع القومي وبقي رغم ذلك وفياً لشعبه ولوطنه ومبادئه.

وفي نهاية الكتاب جاءت بعض الصور الشخصية للشاعر الراحل بالإضافة إلى مخطوطات لقصائد بخط يده، وهذا الفعل قل ما وجد في الكتب الجديدة، وأجمل تعريف لروح الشاعر الوقادة تأتي من كلماته الشعرية الجميلة حين قال:

وصــــحا ريفنا ونصحو مع الراعي مع الناي والخراف ونجري
فإلى النبـــــع مـــرة وإلى الصيــــد وحيــــنا إلى زيــــارة قبــــر
زعموا أن للحــجارة ســــلطانا فقـلـــنا: ســــمعا وطاعــة أمــــر
بيدالله، لا يــدي، كان خلقي من جنونا لمنى، وما لســُت أدري.