قراءة في كتاب “الموت بين البيروقراطية والمصلحة السياسية: جائحة كوفيد– 19”
علي اليوسف
يؤسّس كتاب “الموت بين البيروقراطية والمصلحة السياسية: جائحة كوفيد– 19” للكاتب التونسي د. تهامي العبدولي الصادر عن دار نينوى في دمشق مؤخراً الطريق للبحث في الظواهر الطارئة، بل القراءة الواعية للطارئ، وتحديد أسبابه وآثاره في الثقافة. يقول المؤلف: “فعلاً، لا يمكن لدارس، وهو يفكر في مثل هذا الموضوع، أن يدّعي اعتماد منهج لساني أو اجتماعي أو نفسي، أو ما قرّره تاريخ الأفكار أو المنهج الأنثروبولوجي، لسبب بسيط، هو أن الظاهرة المدروسة أعمق، ولا يمكن الاكتفاء في دراستها بمنهج واحد”.
يقع الكتاب في أربعة فصول، تركز في معظمها على فكرة الموت والحياة، لكن أن يكون الموت بين بيروقراطية ومصلحة سياسية، فهو الإشكال الذي لا تقوى العقول على قبوله، وإن سلّمت به.
يذهبُ الكتاب إلى القول بأن الموت ليس ثقافة بل الثقافة هي الحياة، إذ لا شيء في الحياة إلا وهو من الثقافة. أما الموت كما صوّره في هذا الكتاب فحدث يحدث بين -لا بسبب ولا نتيجة– البيروقراطية والمصلحة السياسية، ومن ثم يعطي القارئ إجابات شافية وكافية عن تساؤل ما عليه تكون صور الموت بين البيروقراطية والمصلحة السياسية، وكلّ ذلك يبرهن عليه ويشرحه بالقول نعم، يمكن أن يموت البشر –وغيرهم– بين البيروقراطية والمصلحة السياسية، ودليل ذلك “جائحة كوفيد 19”.
جاء في الديباجة بعد سرد وقائع ما أحدثته الجائحة بالكاتب من أثر: “هكذا، هي بعض وقائع كنتُ شاهد عيان فيها على ملامح استجابة البشرية للجائحة، معطوب بعضها، وسليم بعضها الآخر، سيذكر كأعظم “غالق” في التاريخ، أغلق البر والبحر والجو، فيما بقية الشخصيات التاريخية فاتحون وغزاة”.
يقول المؤلف في المقدّمة: “إن دراسة ظاهرة اجتماعية أو حدث تاريخي أو قضية سياسية أو مسألة فكرية هي في المقام الأول محاولة التفكير فيها تفكيراً موضوعياً، غايته التحليل والتفسير واستخلاص النتائج، وذلك لا يعني مطابقة حقيقة الموضوع المدروس تمام المطابقة، لأن الحقيقة أصلاً متعدّدة متغيّرة حسب وجهات النظر، وصواب التفكير كونه ممكناً وتفهمياً”.
وهنا يلحظ حرص المؤلف على أمرين، هما التطور الذي يحكم سير الصياغة، فالبدء كان بالأسباب، وصولاً إلى المجابهة حتى بلوغ الآثار في مسألتين هما انزياح ثقافة النظام العالمي الجديد، إلى نظام يسعى إلى الخلاص من القطب الواحد، وبحثاً عن نظام عالمي متعدّد الأقطاب. والأمر الثاني هو البناء الذي يحرص على وضع خاتمة لكلّ فصل تجمل ما ورد فيه، وتساعد على توجيه الفهم في عمق الحقيقة.
في الفصل الأول، أقام الكاتب منهجه على الاستقصاء، وجمع الأدلة والوقائع والأقوال، وأعاد ترتيبها ليتسنى تحليلها في أسئلة إشكالية، إذ لم يكن همّ المؤلف الانخراط في ذلك اللغط الذي دار حول اصطناع الفيروس أو طبيعيته، وإنما عمّق البحث في مسائل أخرى مثل المعالجة والاستقصاء، متسائلاً، على سبيل المثال، هل يعقل أن تقع جائحة بهذا الحجم في القرن الواحد والعشرين دون أن تتنبأ المعرفة العلمية بها؟! أم إن في الأمر تعمداً للتجاهل؟.
وفي الفصل الثاني، لم يركز الكاتب على وصف التعثر في مجابهة الجائحة فحسب، بل جمع بحكم ثقافته وإطلاعه الأدلة والوقائع بغرض تفسير هذا التعثر، حيث أعطى مثال ذلك بيروقراطية النظام الصحي في فرنسا وإيطاليا، وسرعة انتشار الوباء.
وفي الفصل الثالث، يخرج الكاتب باستنتاج من الفصلين السابقين مفاده انزياح الثقافة الإنسانية عن النظام العالمي الذي أمسى وكأنه عقيدة يدين بها الجميع، حيث إن الجائحة وضعت ذلك النظام موضع السؤال والشك، فمن يتحكّم في سياسة الجائحة واقتصادها وثقافة الإفادة منها؟. ويقول، الغريب أن يغادر هذا النظام العالمي ساحة المواجهة، ويتجه بكلّ أسلحته إلى البحث عن موطئ قدم للتحكم بالعالم وحياة الناس. ألم يدعُ بعضهم إلى ثقافة القطيع مصرحاً: “علينا أن نستعد لفقد بعض أحبابنا؟ ولكنه حين أصيب وظّف كل إمكانات شعبه لعلاجه ونقاهته”. هذا فيما يعكسه هذا النظام داخلياً، أما خارجياً فقد ظلّ رئيس الولايات المتحدة التي كانت الإحصائيات تضعها في المرتبة الأولى في عدد الإصابات والوفيات، يردّد “الفيروس الصيني” حتى دعا مواطنيه إلى شرب سوائل ومواد التنظيف للوقاية والعلاج. كلّ ذلك سعى إلى تحويل الأنظار والجهود من مجابهة الفيروس إلى مجابهة بين القوى التي تريد إما الدفاع عن النظام العالمي القائم، وإما التبشير بنظام عالمي جديد. هذا بالإضافة إلى قضايا أخرى مثل التسابق في التحكم بالدول العاجزة أصلاً عن مواجهة الفيروس، وما صاحب ذلك من زلات أخلاقية صارخة.
وخلص الكاتب -في الفصل الرابع– إلى تحليل ما سبق، فكان: “الجائحة من القطب الواحد إلى تعدّد الأقطاب”، فصلاً يوضح أن تعثر المواجهة أدى إلى إرساء ثقافة جديدة لا في مواجهة الكوارث، بل في تعدّد الأقطاب في تسيير أو التحكم بالعالم، حتى جاءت الحرب في أوكرانيا فدعّمت ما توصل إليه البحث دعماً كبيراً.
من الواضح أن الكاتب يريد إيصال رسالة أن الجائحة أصابت الحضارة حتى أملت على الثقافة أن تغيّر مسارها، وتعيد تشكيل مكوناتها لتنتج ثقافة أخرى تعيد صياغة النظام العالمي الجديد المتجدّد المنزاح من قطب واحد إلى أقطاب متعدّدة، وربما تسفر الحربُ في أوكرانيا التي أعقبت الجائحة بأي وجه من الوجوه عن نظام عالمي بصيغة أخرى مخالفة تماماً.