ثقافة

دمشق صبراً على البلوى

أتخيلها تلك الدعسات وكأني أسمع صوتها الآن، دعسات مكسورة لآخر خائب فرنسي، عرف أنه عندما جاء إلى هذه الأرض، وخبر معدن أهلها بأنه سيعود يوماً، إما بخطوات الذل تلك التي خطا بها آخر خطواته على هذه الأرض وأنظار السوريين جميعاً تراقب ذلك الزمن الأسود الذي مرّ عليهم، مقسمين أنه لن يعود بعد، وإما مدفوناً في ترابها، فهي كعادتها مع باقي من مر من شذّاذ آفاق وعصبة الطامعين، لم تبخل عليهم بحفرة من ترابها، هكذا هم بالنسبة لها، ميتون أو مندحرون، مورقة أبداً بأبنائها الذين عندما يستشهدون في محرابها، يحيلهم رحمها إلى أشجار ريحان ولوز.
لن تجدي قراءة في التاريخ لسرد وقائع ذاك الزمن “ومن الاستعمار الفرنسي”، فمن منا لم يقرأ ماذا فعل إبراهيم هنانو وصالح العالي وأحمد مريود وسلطان باشا الأطرش، من منا لم يمتلئ صدره بالفخر عندما سعى الفرنسيون لتقسيم سورية مذهبياً؟، فجاءهم الرد بالنار والبارود: نحن إخوة. من منا لم يقف أمام نصب الشهداء في ساحة المرجة وأهازيج تأتيه من ماضٍ بعيد بأصوات من رحلوا: “زينوا المرجة والمرجة لينا”، وعلى يمين النصب رأى كيف يصير الرجال جبابرة أمام الموت، يغدو الموت لعبتهم، والمشانق التي تدلّت نصب أعينهم، كأنما هي أراجيحهم إلى الغيم.
تعود لذاكرتي الطفولية  في 17 نيسان أغنية قديمة كنّا نردّدها ونحن صغاراً دون أن نعيها، “طيارة طارت بالجو فيها عسكر فيها ضو، فيها إبراهيم هنانو، راكب على حصانو”، كم كنّا نفرح عندما نغنيها، وكنت أتساءل حينها: لماذا يركب إبراهيم هنانو على حصانه وهو في الطيارة؟ هذا الرجل ومن معه من أبطال الجلاء، ارتبطت صورهم بوجداننا وهم فرسان، لا تليق بهم إلا سروج الخيل، فخر العربي الحر.
ثم تأخذني ذاكرتي لرائحة باحة المدرسة عندما كنّا نشطفها ونزينها فرحين صاخبين، وكأننا عندما كنّا نشطفها بالماء كنا أيضاً نتطهر بأرضها من رجس ذكرى المستعمر، أتذكر صور الشهداء الذين كنّا نلفّ الإطارات التي تلفّ صورهم بالورد، كلمة المدير وهو متحمّس لكل حرف يقوله، وقوفنا بانضباط مهيب، لا يحدث عادة في مواقف مشابهة، الأغاني والهتافات التي كنا نردّدها.
سقى الله تلك الذكريات، كنّا طلاباً من كل محافظات الجمهورية العربية السورية، بهجتنا كانت واحدة وأصواتنا بُحت معاً في ذكرى الجلاء، وأستغرب كيف للبعض ممن درس فوق تلك المقاعد وشرب من تاريخ هذا الوطن العظيم، وعرف معدن رجاله وطيبة أهله، أستغرب أن يكون هو ذاته، من يهدم مدرسة لعب في باحاتها، أو أن يحرق أرضاً ركض وراء عصافيرها وهو طفل، أستغرب، وأنا أشاهد ما تبثه الشاشات عن وطني وكأني غير مصدّق لما يجري، هل ما يحدث في السيدة سورية، السيدة العفيفة الطاهرة، نقية الأثواب، فائقة الدلال، “ست الصبايا”، هو حقيقة أم ضرب من ضروب الهوس؟!..
أصحو من شرودي على صوت الجواهري: