ثقافة

سينما الرسوم المتحركة ثورة إبداعية حداثية

شكلت أفلام الرسوم المتحركة منذ بداية القرن العشرين عالماً “موازياً” لعالم الأفلام الأخرى التي تعتمد التصوير المباشر للواقع الحقيقي سواء أكانت تلك الأفلام وثائقية أم روائية.
هذه حقيقة لا تؤخذ عادة بعين الاعتبار ولا تتم دراستها بالنظر إلى أن الشائع عند الحديث عن أفلام الرسوم المتحركة التعامل معها باعتبارها فقط أفلاماً موجهة للأطفال. فالسينما ولدت في نهاية القرن التاسع عشر وسط انتفاضات إبداعية متتالية شملت جميع حقول الآداب والفنون، تبلورت تدريجياً على شكل مدارس واتجاهات إبداعية حداثية رسمت مسيرتها منذ بداية القرن العشرين وصولاً إلى سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى التي تسببت في زعزعة الكثير من المفاهيم المتداولة، وهزت القناعات وجعلت الناس يفقدون الثقة بقدرة العقل على تفسير الواقع، ومن ناحية ثانية ترسخت فيها تلك المدارس والمناهج الإبداعية الحداثية الثورية الطابع، المتمردة على كل ما هو قديم متبع والبحث ليس فقط عن تجديد في الأشكال والمضامين بل أيضاً عن مواد ووسائل جديدة تستخدم في الإبداع. هكذا تعممت مناهج التكعيبية والسريالية والدادائية وغيرها على حقول الإبداع الفنية والأدبية كافة. وطالت هذه الثورات حقل السينما الجديد والذي لم تكن قد تبلورت إمكاناته الفنية الإبداعية بعد. ومن اللافت على هذا الصعيد أن من أسهم في دخول السينما في وقت مبكر مجال الثورة الإبداعية الحداثية لم يكونوا من السينمائيين بل من الفنانين “التشكيليين” منهم بخاصة، وفي حين كان السينمائيون منشغلون بتعلم أو اكتشاف إمكانات ألف باء هذه الوسيلة الجديدة وقدرات تقنياتها على عكس صور الواقع الحقيقية وجد بقية الفنانين من غير السينمائيين في السينما وسيلة ممكنة للمساعدة على تحقيق ثورتهم الإبداعية. وكانت مادتهم لتحقيق ذلك شريط السليلويد عن طريق الرسم عليه، مبدعين بذلك الأشكال البدائية لفن الرسوم المتحركة.
تطورت هذه التجارب فيما بعد على شكل أفلام تتبع السينما الأخرى -الأصل في سرد القصص- ممهدة بذلك الطريق أمام تكريس الرسوم المتحركة كنوع فيلمي سيخصص في ما بعد للأطفال إلى جانب استمراره كفن تجريبي عبر أفلام قصيرة يحقق من خلالها فنانون سينمائيون رؤاهم الفنية التي تعجز عنها السينما التي ترهن نفسها لنقل صور الواقع المادي وتصبح أسيرة لعملية النقل هذه ومقيدة لها.
ومن أهم فناني أفلام الرسوم المتحركة في العشرينيات من القرن الماضي المخرجة الألمانية لوتيه راينجر التي اشتهرت كفنانة أفلام رسوم متحركة منذ العشرينات من القرن العشرين واستمرت في صنع أفلام الرسوم المتحركة. ويعتبر فيلمها “مغامرات الأمير أحمد” واحداً من أوائل الرسوم المتحركة التجريبية الطويلة في العالم حيث بلغ طوله خمسا وستين دقيقة ويعود إنتاجه إلى عام 1926.
وقد تطور فن أفلام الرسوم المتحركة في السينما العالمية وفق أساليب مختلفة، فهناك الأسلوب الكلاسيكي الذي اشتهرت به السينما الأمريكية والذي يعتمد على رسم الحركة صورة فصورة على سطح مستو وبمعدل أربع وعشرين صورة في الثانية وهناك الأسلوب الذي يعتمد على تحريك الدمى.
من ناحيتها طورت المخرجة لوتيه راينجر أفلام الرسوم المتحركة التجريبية التي تقوم على مبدأ خيال الظل والمستمد من فنون الشرق وبخاصة الصين. هذا الجوهر المتميز بفن الرسوم المتحركة هو ما أدى لاستمرار العديد من الفنانين حتى أيامنا هذه في اعتمادها وسيلة للتعبير عن أفكار صعبة معقدة ذكية من خلال إبداع فني سينمائي يعتمد الصورة المرسومة المتخيلة ويستطيع أن يقدمها على نحو مكثف وفي زمن مختصر.
وفي أواخر النصف الأول من القرن الماضي مع إنجازات مؤسسة والت ديزني بشكل خاص، أصبحت أفلام الرسوم المتحركة جماهيرية واتخذت مساراً مختلفاً وبعيداً عن الروح الفنية التجريبية باتجاه رواية القصص عن طريق أفلام طويلة وسلاسل فيلمية موجهة للأطفال بخاصة، ولكن جماهيرية هذا النوع من السينما والشكل الذي اعتمدته كوسيلة لسرد القصص حمل في طياته تأكيداً على جوهر سينما الرسوم المتحركة، وتميزه عن سينما صورة الواقع من حيث قدرة هذه السينما على التعبير عن الخيال المحض وقدرتها على تجسيد صورة غير واقعية أو بشكل أدق غير ممكنة واقعياً، فمن دون إمكانات سينما الرسوم المتحركة هل كان ممكنا جعل الأشياء والنباتات والحيوانات تتحرك وترتبط فيما بينها بعلاقات، وتتفاعل وتتحدث كما البشر وتتحول من حال إلى حال ومن شكل إلى شكل أمام أعين المشاهدين من دون أن يبدو غريباً أو ضرباً من السحر بل يتم استقباله بشكل عادي طبيعي. وفي المقابل يلاحظ تعلق الأطفال بأفلام الرسوم المتحركة أكثر من تعلقهم بالأفلام العادية وهذا يؤكد تميز جوهر فن الرسوم المتحركة من حيث المبدأ باعتباره محفزاً لخيال الطفل أكثر من فن صورة الواقع المادي.
إبراهيم أحمد