ثقافة

نهض إلى الموت رجلا لرجل

تمام علي بركات.
منتصب القامة أمشي .. مرفوع الهامة أمشي …في كفي قصفة زيتون… وعلى كتفي نعشي، وأنا أمشي وأنا أمشي.
مشى صاحب هذه الكلمات أيها السادة، كلمات صارت من مفردات الكرامة العربية بعد أن جرت على لسان كل الأجيال العربية التي مجدت المقاومة ضد المحتل أيا يكن، ليغنيها ابن الجنوب اللبناني كما غناها ابن القدس، وليرددها ابن الجولان كما يرددها ابن لواء اسكندرون، كلمات صار صاحبها جزءاً وجدانيا من وعي المقاومة وثقافتها.
مشى “سميح القاسم” كما أرادت قصائده: قامة منتصبة وهامة مرفوعة، بعد أن اتكأ بمرفقي شعره وما بقي من حرائق القلب على وهن اللحظات الأخيرة، مشى من مرض جسده هذه المرة، خلعه عن كتفيه كعباءة رثة وقام منه إلى الموت، نهض من أثقال قلب الشاعر المهزوم، لا من مرض أو خلل في تجربته الأدبية عموما والشعرية بشكل خاص، بل لأن ما ناضل حبره لأجله طيلة عمره إن كان في سبيل القضية الفلسطينية بشكل خاص وبالقضايا العربية والقومية والعالمية عموما، مات دونه، همدت مخالبه عن حروفها وجف حبره في عروقه وترملت قصائده، ولم يكتب له أن يرى فلسطينه معافاة من جراحاتها النازفة، لم يشم رائحة الهمم التي استنهضتها أشعاره لتحرير وطنه، تدنو من أسوار القدس، بل شاهد بأم عينه الذابلة، كيف بدا البعض من الذين ظنهم أهلاً وأشقاء، بحفر الأنفاق تحت تاريخ فلسطين برمته، تحت اسمها وحجارتها وناسها وحتى أغانيها.
مات صاحب “دمي على كفي” وغزة تشطف دم أبنائها وأطفالها عن الإسفلت بعد العدوان الصهيوني الأخير عليها، لتكتب على الجدران وعلى القلوب،على الهواء والماء،على البندقية والرجاء:
تقدموا/ كل سماء فوقكم جهنم/ وكل أرض تحتكم جهنم/ تقدموا/ يموت منا الطفل والشيخ
ولا يستسلم/ وتسقط الأم على أبنائها القتلى/ ولا تستسلم/ لن تكسروا أعماقنا/لن تهزموا أشواقنا/ نحن القضاء المبرم/ تقدموا/تقدموا.
نعم لم يمهله الزمن حتى يرى بيارات يافا وبحر حيفا وشوارع القدس العتيقة وكل المدن الفلسطينية، تعفي أجراس العودة من أشغالها الشاقة، وتمنح أصوات العائدين وضحكاتهم تلك الأجراس الهرمة إجازة تقاعد دائمة بسبب انتهاء مهمتها بعد تحرير فلسطين، لكنه شاهد كيف أينعت الكرامة والرجولة في غزة، اطمأن قلبه إلى أن إرثه في النضال والكفاح ومقاومة المحتل ومقارعة الخطوب الجسام، في أيد أمينة.
أنا لا أُحبُّكَ يا موتُ.. لكنّني لا أخافُكْ/ وأدركُ أنَّ سريرَكَ جسمي.. وروحي لحافُكْ/ وأدركُ أنّي تضيقُ عليَّ ضفافُكْ/ أنا.. لا أُحبُّكَ يا موتُ/ لكنني لا أخافُكْ!
سميح القاسم نهض إلى الموت كما ينهض الرجال ليصافحوا الرجال.