ثقافة

قراءة في ديوان “كسرب لقالق بيضاء”

“لِعينيكَ/صباحٌ كاملٌ من الياسمين/وبيننا/مسافة جرحٍ/ولا/ نلتقي”
وبدون أن أقرعَ بابَ عزلتِها، وأُفزِعُ حواراتِها الهامسة، مع مَنْ كانت تهتفُ للحدائق أن تتلاقى بكلِ فصولِها في – ساحةِ- اشتياقاتِها، وتخدشُ خدودَ الصمتِ بانجرارها صوبَ لعبةٍ صوفيّةٍ، مُتخمة بالتهجّداتِ، والترتيلات، يلوحُ ليَ أمام هذه المشاهد بعناوينها النافرةِ: شتاءات قصيرة –لأنكَ قاسٍ كالصقيع– حسرة الظل، هذه الأشجار العتيقة في الزمان والمكان في جغرافيّة ديوانها “كسرب لقالق بيضاء” تتفرَّع غصونٌ غضّةٌ وتورقُ، وقت ما تريد الشاعرة تتحايل بعناوين رومانسيةٍ لِواقعٍ مُفْعمٍ بالقساوة، ومُثخن بالخشونةِ.
تبني أعشاش قصائدها مدعومةً بتلك العناوين “الدّعاماتُ” لِسَقْفِ انهماكاتها العشقيّةِ كّـ مطر – نوارس – ربيع – صباح – آخر النسيم – تبرقُ ومضاتها إلى الـ “هُوَ” الغائب،  والـ “أنتَ” لكَ وحدكَ، أعمِّر ما تشتهيه من عشيّاتٍ رافلاتٍ بكل أطايب السَّعادة والهدوء؟!  وكيف تفرُّ الزرازيرُ، ولهاثكَ ما انْفكَّ على حرير الوسادةِ، مرْجٌ من النّعمان، ورفيفُ نسيم البراري؟!
أنتَ، أيَّها المخاطبُ، والمومأ إليهِ في أعراس وخبيآت قصائدي، أما آن وقت ارتحال وانقضاء “قيلولتك” التي أينعت في حضني سهلاً من “الدردار” وواحة من “زعتر” البوادي؟! وتقودنا الشاعرة “كأميرة الأساطير” إلى مالا نريد، أو لرؤية ما لانرى؟ هي تتقصَّد في مكانية القصيدة، أن “تُجغْرفَ” الأماكن وتُؤرّخ في الذّواكر بِصوتها إلى ذكورةِ/ الغياب، وتُهاجِسه على كامل جَسَدِ الديوان.
ومن “شتاءاتٍ قصيرةٍ” تقول: “غيري/ من يدلُّ الجداول/ إلى أيّامك/ مَن يُلْفتُ العصافير/ إلى أشجار قميصكَ/غيرُكَ/ مَن يُعمِّرُ بيتي/ بأحجارِ الغيابْ؟!”  ص 13
ويمتدُّ بنا الحنينُ إلى أن يخرج النَّص من سياقِه “الرَّعوي” الذي تتكاثر فيه، وتتزاحم ألفاظ الطبيعة بكامل تفتحِها، نكادُ – معها- نشمُّ روائح ماتعدُه الفصول من مواسم وعطاءات،   لولا بعض التكرار الذي يشلُّ زهوة الارتياح أحياناً، وتستأنف الأنثى / الشاعرة في خِطابها للمعشوقِ، مع لمساتٍ نزقٍ جسدي، ومفردات تُفضي إلى الرغبة المشفوعة بالخوف، تقول الشاعرة رولا حسن: “لأنكَ قاسٍ كالصقيع/مِن أيامي/تهاجرُ العصافير/ يمضي الشجرُ حزيناً/ إلى تشرين”  ص 21
لا تُفلِتُ الشاعرة “حسن” من تلك اللحظات التي هي أقربُ إلى التّراتيل الإنشادية المبلّلة حتى الفناء بالنشوة، واحتقان الغابات الأرملة، وكأنها تتمثل قراءة “المزامير” من تجلياتٍ وشهقاتٍ “إيروتيكية” والتي تتباينُ حين الحضور وبعيد الغياب القاتل، تنشد رولا:
“يابسٌ الوقتُ/القرنفلُ/غادر ألوانه/في غيابكَ/أمضي إليكَ/وبيتُكَ الغيمُ/ومراكبي صوب عينيكَ/أبحرتْ”   ص 57
هذا التناغم الصّوفي، ولخّةُ الرّوح بين هي/هو، وقْت يغيب صوت الذكورة، ليبقى صوتها مترنِحاً، ولا نغضُّ الطّرفَ عن حركية، واستمراريّة نباتات البرّيّة في تدفقها وتواجُدِها في باحات وأرصفة النّصوص، مثل القرنفل، والياسمين، السوسن والعصافير، التي ما انفكّت تتلامحُ بين منعطفات القصائد، وكأنه العصفور/هو رمزٌ للعشيق أو هو/ بذاته يتراسمُ كضباب الصّباحات أمامها.
تتقِنُ فنَّ الحبكِ، وتنسُج مواويلها على كيفها، تتحايلُ بذكاءٍ وسرعةِ بديهة، لا تُقاربُ عند أقرانها من الشاعرات، وتولدُ المعاني، وتنقيها بدراية مُبتعدة عن جفاف التجربةِ التي تدخل بوابة الرومانسية، تاركةً أثراً نفسيّاً، وتساؤلات مُحيّرة لدى القارئ تقول:
“أحفظكَ غيباً/ كأناشيدي المدرسيّة/ كعصفورٍ/ يُتقنُ الصّباح/ مرَّ النسيان/ سَرَق صوتي/ فرحتُ/ تُعشبُ على شفتي/ مُبلّلاً بالفصول”  ص 69
مَن لا تغفلْ خُطاه على بوّابةِ الإبداع، يقرعُ شبَّاكَ الديوان بتأنٍ، ويقضي معه وقتاً، وبعينيه  يتناغم مع الومضات برموشها، لأن ليس كلّ شعر يُقرأُ على المنبر هناك أشعارٌ تُقرأُ بالعيون! وبتحريك الشفاهِ، وهذا النموذج أقربُ إلى شعريّة البوح، والهمس، والإشارةِ، وأيَّةُ قِراءةٍ غير ذلك، تفقدها “هالتها وطلّتها الجماليّة، ويُضعِفُ بُعدها النّفسي، والتّوتر الرّوحاني؟! وهل يستوي، أو يجوزُ أن تقرأ قصيدة لعنترة، أو المتنبي في حضرةِ “فيروز” التي تُرندحُ وتقول بهمس النّسيم “تعا ولا تجي”.
وما تلبث أن تُطلُّ القصيدة من شُرفتها، وتوحِّدُ بين العاشقين من خلال قول الشاعرة رولا  وتلك ومضة شهَّاء تلتفتُ إلى الشاعر “عبّاس بيضون” كأنّها ارتعاشات شلّالٍ ما فارق ينابيعه أبدَ الدّهرِ، تقول:  “حين أمطرتْ/اختبأنا/تحت شرفات المودّة/الحسرةُ هاجرت إلى عيوننا/ كسرب لقالِقَ بيضاء” ص 71
وإلى أمِّها التي تحضُنُ قداستَها، وتقبِّل جبينها ويديها، وتداعبُ خصلات شعرها الشائبة؟!  تقول: “يا أمي/ صرتِ مدينةً عتيقةً/ بِبوّاباتٍ/ضيّعت مفاتيحها”  ص 73
رغم كل هذه الزّحامات، وتراكم الأزماتِ، ورواجِ النّسيان، واختباء الذاكرة بين تخوم التّحولات الجديدة والقاسية، التي تمرُّ بها، وفيها بلادها “سوريّة” فهاهي “بيروت” اللّاطيةُ في خاصرتها أبدَ الزّمان والمكان، كاشِفةً عن تاريخها، ونافخةً الغبار عن عهود آرام وسومر، وفينيق، والرّواقي السّوري “زينون” صاحب مذهب فلسفي “الرّواقية” الذي حيّر بها فلاسفة أثينا؟! وتبقى الشام الحاضنة والأمّ الحنون لجغرافيّة “الهلال الخصيب” وتدرين ياشاعرتنا أنه حتى السُّنونو الذي يلهو ويطير تحت زرقةِ سماء سوريّة هو سوريٌّ الهويّةِ والملاذ تقول رولا: “لِأنَّ لكِ/هذا الهواء البرّي/ أتنفسُّكِ/ كعشبةٍ”  ص 74
هذا هو الخطابُ الشعري، للشاعرة التي شَغَلتني ردْحاً من الأوقاتِ بقراءتهِ، وبحالاتٍ لا تتناغم، مع الواقع المعيوش في حياتي؟! و”سُوريانا” أمُّنا التي تعدُّنا واحِداً واحِداً قبل أن تنامَ، والشّامُ لا تنامْ؟!
الشاعرة رولا حسن، أينعت بأشعارها، فأبدعت في اقتناص الشّاعريّةِ، وهذه التي “لا تأكل بثدييها” عاصيّةً عن التّأويل، وأكبر من أن تترجم إلى اللّغات، لِأن الترجمة وخاصّةً  “الشعر” يفقد بهاءه، وتضيع هيبتهُ، وتتعثر “لخّة القلب” بين عروقِ الوطن الشعريّ الحقيقي، ويبقى الابن بالتّبني لا يلق الحنان، كمثل الابن الذي رضِعَ من ثدْي أمُّه؟
تقول الشاعرة:
“خلِّني/بأطرافِ أصابعي/ألمسُ صوتَكَ/وفي مساكِبهِ/أزرعُ نعنعي”  ص 83
يتمدمدُ الديوان على مساحةٍ سِعتُها تسعون صفحةً وبهيبةٍ ووقارٍ، يُطل من “برندة” الإبداع، لِشاعرةٍ/أنثى، خطابٌ شعريٌّ فاتنٌ أخّاذ، مُقْلِقٌ، لذيّاكَ العشيق/الذكر، وبجرأةٍ حيَّرت القارئ و”حيّرتْني” وتركتنا في صوفيّةٍ صافنةٍ، ودهشةٍ أقربُ إلى الذُهولِ والارتقاء!
خِطابٌ مُوجَّهٌ بكامِلهِ إلى الآخر/ الذكوريّ، والأغربُ من هذا وذاك هو عدم وجود أيّ قصيدة موجّهة لِلأنثى؟! هو هتافٌ بامتيازٍ لعاشِقةٍ في معشوقها، حيث وسَّعتْ الشاعرةُ من سُلطةِ اللّفةِ، وأوصلتْها بعناصرِ الطبيعةِ كلها، حالةٌ من التَّشاركيّة الودِّيّةِ، والعناق التّصالحيّ، مابين “الجمال والحواس”.
كسرب لقالِق بيضاء- للشاعرة رولا حسن- الناشر دار التكوين  2006
خضر عكاري
khudaralakari@hotmail.com