ثقافة

ماذا بعد الرفض وهل حققنا الهدف بمنع طباعة الكتاب؟

على الدوام كانت النفوس المبدعة، مع اختلاف مجالاتها، تواقة للحرية والتخلص من قيود الزمان والمكان، من هنا ربما كان لكلمة “رقابة” حساسية لدى هؤلاء، كونهم يرونها تعني بشكل مباشر أو غير مباشر تقييداً لإبداعهم. هذه القضية تدفعنا لطرح عدد من التساؤلات، والبحث في طبيعة العلاقة الإشكالية بين الكتّاب وقرّاء المخطوطات لإقرار طباعتها أم لا، وكثيراً ما دارت السجالات حول موضوعية التقييم، والى أي مدى يمكن أن تدخل التقييمات الشخصية في عمل اللجان، فأخذنا هذه التساؤلات وعرضناها على جهات مختلفة معنية بإعطاء الموافقات على المخطوطات المطروحة للطباعة، والبداية كانت مع د. جهاد طاهر بكفلوني مدير الهيئة العامة السورية للكتاب، والذي عبر عن تمنياته بأن  يتقبّل المؤلِّف رفض مخطوطه من قبل لجنة القراءة بقبول حسنٍ، وأن يخرج من ذهنه فكرة توسوس له أنّ الرّفض جاء نتيجة علاقة شخصيّة قائمة بين الطرفين ليس أساسها الودّ والتّقدير، فرفض المخطوط لا تعني النّيلَ من سمعته ولا الغضّ من قيمته، ولا تعني بحال من الأحوال نهاية العالم، فبوسعه إجراء تعديل أو تحوير أو تغيير في مؤلَّفه، وتدارك الملاحظات التي ساقها “القرّاء” من باب الحرص أن يكون النتاج أقربَ إلى الكمال، والتقدّم مرّة أخرى بالمخطوط نفسه ليجد أنّ الباب مفتوح على مصراعيه لاحتضان نتاجه.
صدرنا يضيق بالنقد
وعن السبب في العلاقة الإشكالية بين المؤلف وقارئ النصوص يقول د. بكفلوني: إن  مردّ ذلك في رأيي إلى عاملين: الأوّل أنّ صدرَنا يضيق حرجاً بالنّقد، ونراه انتقاصاً من القَدْر، والثاني أنّ بعض المؤلِّفين يرى أنّه أكبر من أن يمرّ بصراط التقييم، وحدث مرّة أنّ أحدهم قال لي: لو كنتُ أعرف أنّ مخطوطي سيحال إلى القرّاء للتقييم لما كنتُ تقدّمتُ به إليكم فأنا لا أقبل أن يقيّمني أحد، وأغلق على الفور باب الحوار الودّيّ، فكيف لا يعيد الرفض إلى سبب شخصيّ رآه كامناً وراء الرفض ما دام لا يقبل رأي الآخرين فيما تخطّ ريشته؟!.
وعن مدى اختلاف المعايير التي تعتمدها الجهات في تقييم المخطوطات يؤكد بكفلوني أنه لا يؤمن بوجود اختلاف في معايير النشر بين الهيئة العامّة السوريّة للكتاب واتّحاد الكتّاب العرب؛ فالطرفان يلتقيان عند نقاط مشتركة منها تقديم الكتاب الجيّد النّافع، ومدّ اليد لاحتضان المبدعين على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم الفكريّة، وضخّ دم جديد في عروق الثقافة التي تبقى حاجة من أهمّ حوائج الإنسان، لكنّ طبيعة عمل كلّ جهةٍ قد تختلف عن الأخرى، فالهيئة تنفّذ سياسة ثقافيّة موضوعة من قبل وزارة الثقافة وتلتزم التزاماً تامّاً  بهذه الثقافة، وقد تختلف نسبياً علاقتها مع الكتّاب والمفكّرين عن علاقة الاتّحاد بهم، ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الإبداع رسالة يرسلها المبدع إلى المتلقّي وهو هنا الجمهور والحكم وكلٌّ يقرأ هذه الرسالة من وجهة نظره، وهنا منشأ الاختلاف في الفهم والتقييم، فالناس ليسوا على درجة واحدة من الملَكات والقدرات الذهنيّة والسويّة الفكريّة والأمر ينسحب على المثقّفين كذلك،  لذلك كان وضع معايير صارمة تضع حدّا للسجالات أمراً شاقّاً، لكنّ ذلك لا يعني أنّ عملية تقييم النتاج المبدع منفلتة من الضوابط والقيود.

نشر الكتاب الجيد
وعن جدوى الرقابة في ظل الفرص المتاحة للكاتب لنشر كتبه في الخارج يقول: إذا كنتَ تملك على سبيل المثال دار نشر وأتاك كتاب لا ترضى عن محتواهُ فرفضتَ نشرَهُ، وذهب صاحبه إلى دار نشر أخرى فقامت بنشره فما أنت فاعل؟ مهمّتك يجب أن تنصبّ على نشر الكتاب الجيّد لا منع الآخرين من نشر الكتاب الرديء، وإذا أردتَ منعَهُ فجوّد كتابك، لأنّ الجيّد يطرد الرديء على خلاف قاعدة “غريشام” ..”العملة الرديئة تطرد العملة الجيّدة من السوق”.. كما أن المسؤول عن تداول الكتاب المطبوع في سورية وخارجها وزارة الإعلام وليس وزارة الثقافة، فالوزارة كما أعلم حريصة على توفير الكتاب الجيّد، وهي تسعى من خلال الهيئة للنهوض بمستواه شكلاً ومضموناً، ولا تدّخر جهداً للوصول إلى تحقيق هذا الهدف النبيل.

نادراً ما يتم تسجيل موقف مسبق
بدوره أكد مدير الرقابة في وزارة الإعلام نبيل عمران أن طبيعة العمل في مديرية المطبوعات والنشر في وزارة الإعلام تختلف إلى حد ما عن طبيعة العمل في الجهات الأخرى التي تؤدي ذات المهمة كاتحاد الكتاب ووزارة الثقافة، والمعروف أن المخطوطات والكتب تمرر أولاً إلى وزارة الإعلام حيث يتم تسجيلها وإحالتها إلى الجهات المعنية بتدقيقها والسماح بطباعتها وتداولها، حيث تحال الموضوعات الأدبية إلى اتحاد الكتاب العرب، ويحال جزء من الموضوعات الدينية إلى وزارة الأوقاف، وكل ما عدا ذلك يبقى من نصيب العاملين في مديرية المطبوعات والنشر في وزارة الإعلام، وبعض المخطوطات التي تسجل عندنا في الوزارة تحصل بحسب موضوعاتها على موافقة الطباعة حالاً، وبعضها الآخر يتم تدقيقه ومنحه الموافقة في غضون أيام قليلة، وبما لا يتجاوز الشهر في أقصى الحالات.
الحيادية هي السمة الغالبة
ويتابع عمران: في العموم نادراً ما يتم تسجيل موقف مسبق بين القارئ الذي يتولى تدقيق المخطوط في الوزارة وبين مؤلف العمل، إذ أن السمة الغالبة للتعاطي مع العمل هي الحيادية بعيداً عن كل ما يسمى عداوة الكار التي قد نجدها في بعض الجهات الأخرى خارج وزارة الإعلام حيث يتولى كاتب مهمة تدقيق عمل كاتب آخر.. وتجدر الإشارة إلى أن أبواب الحوار والنقاش مع الكتّاب والمؤلفين مفتوحة ومتاحة في وزارة الإعلام حيث يستطيع أي مؤلف أو محقق أو ناشر أن يتداول مع المدقق في كل الملاحظات التي يسجلها حول عمله، وغالباً ما يتم تجاوز هذه الملاحظات التي تتعلق في معظم الحالات بالشكل وليس المضمون.

المعايير واحدة وتطبيقها مختلف
أما المعايير المعتمدة لدى تقييم المخطوطات فيعتبرها عمران في العموم واحدة، وتشمل كل ما يسيء لقيم المجتمع، وما يهدد وحدة الوطن واستقلاله ويبث العداوة والتفرقة بين أبناء الوطن الواحد، لكن تطبيق هذه المعايير لا يمكن أن يكون واحداً فالمسألة هنا تتعلق بثقافة وفهم وإدراك وخصوصية كل من العاملين في هذا المجال، ومن العبث الغوص في تفاصيل العمل المراد تقييمه أو التدخل في كل شاردة وواردة تتعلق بمضمونه أو أسلوبه فلا بد من احترام خصوصية المؤلف وحريته واستقلاله، ولابد من التسليم بتفرده وتميزه عن غيره من الكتّاب، وبناء عليه عندما يحاول المدقق فرض أفكار معينة على المؤلف فإنه من حيث يدري ولا يدري يرتكب اعتداء سافراً على حرية الفكر والإبداع، هذا يعني أنه يمكن النظر والبحث فقط في الخطوط العريضة لكل عمل فكري أو إبداعي والاهتمام بمنظومة الأفكار والقيم والرسائل التي يريد المؤلف إيصالها للمتلقي.
ويضيف عمران: يحدث أحياناً أن يُرفض مخطوط أدبي أو سواه لأسباب يستطيع الكاتب معرفتها لدى مراجعة ديوان الجهة المعنية بالرفض عندها يستطيع تدارك أخطائه، وغالباً ما يتوجه إلى إحدى دور النشر في الدول المجاورة أو البعيدة لطباعة مخطوطه هرباً من الصفعة التي تلقاها بمنع مخطوطه، وعادة ما تتولى دور النشر إعادة تدقيق المخطوط قبل طباعته وعندما يرد المخطوط مطبوعاً إلى القطر غالباً ما تتولى وزارة الإعلام مهمة النظر فيه ومنحه الموافقة اللازمة أسوة بكل الكتب التي ترد من الخارج لمؤلفين، عرب وأجانب، وفي معظم الحالات يحصل الكتاب على الموافقة المطلوبة باعتبار أنه جرى تدارك الكثير من الملاحظات الواردة فيه بعد المنع الأول، ويحدث أحياناً أن يكون الرفض غير مبني على أسس مقنعة- شخصية مثلاً، ومن الطبيعي في مثل هذه الحالة أن يحصل الكتاب على الموافقة المطلوبة بكل يسر وسهولة.

تتفاوت قدرات القرّاء
وحدثنا القاص عبدو باسم عن سياسة اتحاد الكتاب العرب فيما يتعلق بقراءة النصوص حيث يستقبل الاتحاد المخطوطات من وزارة الإعلام للموافقة على الطباعة على نفقة الكاتب، ومن الكتّاب أعضاء الاتحاد و من خارج الاتحاد للطباعة على نفقة الاتحاد، وأكد عبدو أن الرقابة على الكتاب ليست كما يتصور الكثيرون أنها تتسم بالشدة والصرامة على أنه من المهم ألاَّ يتعرض الكاتب لقضايا تمسّ بسيادة الوطن أو كرامة المواطن أينما كان موقعه، أو عرض قضايا تخدش الحياء بشكل مباشر، على أساس أنها حرية الكاتب. وفي الاتحاد -كما أفادنا عبدو- قرَّاء من جمعيات القصة والرواية والشعر والدراسات والترجمة وأدب الطفل والنقد والمسرح، وهؤلاء القرَّاء تتفاوت قدراتهم النقدية حسب ثقافتهم الفكرية وقدراتهم النقدية الإبداعية.

حق الاعتراض
ويهتم القرَّاء في الاتحاد بمستوى النص المقروء وبنائه الفني الجيد، وتتباين قدرات القرَّاء بنسب مختلفة وذلك حسب ثقافة القارئ واطلاعه على الأدب والنقد المحليين والعالميين، وللعلم فإن اسم المؤلف يحذف من الغلاف وكل شيء يعرّف به ويُنشر المخطوط إذا وافق عليه قارئان أما إذا وافق عليه قارئ ولم يوافق عليه الثاني فيعطى إلى ثالث فإن وافق يتم نشره وإن لم يوافق يعاد إلى صاحبه، ويحق للمؤلف الاعتراض إذا وجد أنه مظلوم، وفي هذه الحال يعطى إلى قارئ رابع. ويؤكد عبدو أنه من الطبيعي أن تبرز أحياناً بعض الإشكالات وإن كانت بنسب قليلة لكنها غير مستعصية على الحل كما يقول، ولا يخلو الأمر من قيام بعض من يرون أنفسهم أنهم من عظماء الكتّاب أن ينشروا أخباراً غير صحيحة ويدّعون أنهم مظلومون، علماً أن المخطوط المرسل من وزارة الإعلام والذي تمت الموافقة على طباعته، عندما يطبع وينشر ويوزع يقدم المؤلف أربع نسخ إلى الإعلام ونسختين إلى الاتحاد كي يعطى حق التداول ويعاد إلى القارئ الذي وافق عليه ليجري مقارنة بين المخطوط والمطبوع وليتبين أن المؤلف لم يزد أو يبدل في كتابه أي شيء.
وعن مدى دخول العوامل الشخصية ومزاج القارئ  في التقييم يقول عبدو: هذا القول فيه شيء من الصحة بنحو 5 في المئة علماً أن التقييم يتم من الناحية الفكرية والفنية واللغوية والرأي العام وغيرها من الشروط المســــجلة على مخطط التقريــــــر الذي يلتزم القارئ به، وقــــــــد حصلت حالات مخالفة مثل ســــــرقة كتاب بكامله دون أن يغير السارق ســـوى اسم المؤلف وعندما كشفت السرقة بعد طباعة الكتـــــاب على نفقة الاتحـــــاد غُرم السارق بالمبلغ كله وأتلف الكتاب ويحق للاتحاد أن يرفع دعوة بجرم الســــرقة ومحاكمة السارق.

الموضوعية ورقابة الضمير
وعن مدى جدوى الرقابة يقول عبدو: في زمن ثورة الاتصالات أصبحت الرقابة على النشر غير واقعية تماماً، فيمكن نشر الكتاب إلكترونياً، ويمكن أيضاً طباعته في بلد مجاور (لبنان) مثلاً وهنا تكون الرقابة روتينية فارغة من مضمونها. وأرى أن الكاتب هو الرقيب على فكره وقلمه، وهو الشخص الأكثر وعياً وحرصاً على الثقافة الوطنية السليمة التي ترفع من شأنه وشأن الوطن.. وأن تكون الرقابة بعد الطباعة والنشر، عن طريق لجنة وطنية متعددة الاختصاصات، وكل كتاب تراه يضر بمصلحة الوطن تمنعه من الانتشار، وهكذا… وأخيراً إن الأمانة والصدق يجب أن تكون سلاح الكاتب، كما أن النظرة الموضوعية ورقابة الضمير هي ما يجب أن يحكم عمل المبدع قبل أي شيء.
جلال نديم صالح