ثقافة

الروائيَّة اليابانية بنانا يوشيموتو…أسلوب سردي بسيط واندفاع رشيق نحو الرومانسيَّة

رواية “مطبخ” للروائية اليابانيَّة بنانا يوشيموتو ترجمة بسَّام حجَّار، ومراجعة د. منى إبراهيم غريب. وقد اتخذت الكاتبة فيها منهج ما عُرف بين الروائيين اليابانيين في العصر الحديث: باسم (شوسيتسو) “الشيء الصغير” أي النص السردي المقتضب الذي لا يهتمّ بالأمور الكبيرة المعقَّدة وفق خط درامي متصاعد، بل هو سرد من نوع آخر يسير على خط فاصل ما بين الغفلة عن العيش وبين الانتباه، هو سرد رشيق مفعم بالرقة والحساسيَّة والجاذبية أيضاً.
على الرغم من أن العنوان بسيط، فهو يحمل قدراً كبيراً من العواطف التي تلامس العمق الإنساني بشفافية المعنى ورقة الكلمات، فأوَّل جملة تبتدئ بها الكاتبة روايتها كانت في غزل المطبخ “أحسب أنني أحب المطابخ أكثر من أي مكان في العالم” ص19، هذا الغزل سببه أن بطلة الرواية (ميكاج) كانت تستعذب النوم في المطبخ قرب الثلاجة، فقد كانت تشعر بالأنس بقربها بعد موت جدتها التي كانت آخر من بقي لها من عائلتها، حتى ليتحوَّل ذلك الغزل إلى حب من نوع متفرِّد: “حين أكون مرهقة تماماً أفكر بشيء من الابتهاج، أنني عندما تحين ساعتي، أودُّ أن ألفظ أنفاسي الأخيرة في مطبخي. وحيدة في البرد أو في الدفء.. والمطبخ هو المكان المثالي لمثل هذا الأمر” ص20.
وقد تحوَّل ذلك العشق إلى حبِّ مطابخ الآخرين واللهفة لاستكشافها بما فيها غير النظيفة منها فتردّد عبارتها: “المهم عندي، هو المطبخ”.
وقد تطورت فكرة محبَّة المطبخ لتتحوَّل إلى أن توقف بطلة الرواية (ميكاج) دراستها في الكليَّة لتصبح معاونة في مدرسة للطبخ، مما أتاح لها فرصة للسفر بمهمَّة يمكنها من خلالها إجراء بعض اللقاءات لصالح المجلَّة.
ولكن ما يثير الغرابة حقَّاً، هو دمج مظاهر الطبيعة في الطعام، فما انعكاس ضوء القمر في صحن (المعكرونة) إلا دليلاً قاطعاً على شدَّة الوله فيما تحب البطلة، لكن هذه الرقة تحوَّلت إلى عنف من خلال البطلة: “ليس عليك إلا أن تتصلي بي في منزلي، غير أن عبارة أخرى خرجت من فمي: سوف أبكي وأطعنك بسكين مطبخ إذا كنت موافقة..” ص99.
ما يثير التوقُّع لأول وهلة هو أن البطلة كثيرة الأكل إلى درجة كبيرة، لكنَّ الواقع غير ذلك، فهي تحب إعداد الوجبات المميزة وبعض الأشياء المتعلِّقة بالمطبخ.
“بنانا يوشيموتو” تعرف كيف تنسج من الأحداث البسيطة عالماً مفعماً بالحسّ العميق، وتعرف كيف تُخرج من عباءة الطبيعة تلك التعابير الساحرة المنتشية بعطر الجمال، وكأنك تهمس لهمس نسمات الربيع، وترتعش لرعشة قطرات المطر وتنساب ببساطة ورقة أمام الأرض المفترشة بغطاء أخضر لامع: “صادف نظري انعكاس صورتي على الواجهة الزجاجيَّة المطلَّة على المنظر الليلي المكسو بالمطر، كانت صورتي تغرق في الظلمات” ص27.
إن الشفافيَّة التي كانت تظهر فيها شخصيَّات الرواية، تشبه بروز قبَّعات الفطر من قلب التربة لطيفة نقيَّة، تظهر بين الحين والآخر بلا جهد من الذاكرة كما في شخصيتي: (كوري ـ شان، ونوري ـ شان)
الرواية ترصد وضع فتاة تحبُّ المطبخ، وقد عاشت وحيدة، بعدما فقدت جدتها، علماً أنها كانت غير مسرورة بعيشتها إلى جانب الجدة: “في حياة مشتركة لشخصين طفل وعجوز ثمّة صمت طاغٍ ينبعث من كل ركن من أركان البيت، حزن مجفل، فراغ يستحيل ملؤه حتى ولو كانت تلك الحياة الأكثر سعادة…”ص40.
وتندفع أحداث الرواية لترصد قصة عشق بسيطة بين (ميكاج) والشاب (يوشي) واللافت هو أن والد (يوشي) قد أجرى عمليَّة جراحيَّة فحوَّل نفسه إلى امرأة فائقة الجمال، وما موتها إلا كارثة أخرى قد حلَّت بميكاج لتعيش صراعاً آخر من الفقدان والوحدة، إلى جانب (يوشي)، ومن هنا تنطلق أحداث الرواية، فتظهر حالة غريبة شبه مألوفة في المجتمع الياباني، فقد أصبح تغيير النوع الجنسي أمراً شبه عادي للأغلبيَّة من الناس، وذلك بأسلوب بسيط وعفوي.
نجد لطافة في سيرورة الأحداث ورقَّة بعيدة عن التعقيد، مشوبة بشيء من الرومانسية والعفوية، خالية من الخط الدرامي الذي يشدّ القارئ للصعود إلى ذروة التشويق، لكن تهافت الأحداث كرذاذ المطر يجعل القارئ يتابع بكل انسيابيَّة مجريات الرواية.
رواية (مطبخ) للكاتبة اليابانية  بنانا يوشسيموتو ما هي إلا جولة في عوالم إنسانيَّة متألِّقة، بأسلوب رشيق، ولغة بسيطة متدفِّقة.
سريعة سليم حديد