ثقافة

“بيير باولو بازوليني” في قلعة حلب

يبدو جليَّاً لمن يطلع على البرنامج الثقافي في مديريَّة ثقافة حمص الاهتمام الواسع بالتاريخ والحضارة والتراث السوري العريق، وما محاضرة د. نزيه بدُّور بعنوان: (بيير باولو بازوليني في قلعة حلب) إلا متابعة لذلك الاهتمام، ودليلاً واضحاً عليه.
المقدِّمة تضمَّنت موجزاً عن فيلم بعنوان (ميديا) للمخرج الإيطالي (بازوليني) لعبت دور البطولة فيه مغنيَّة الأوبرا الشهيرة (ماريا كالاس) وجرى تصوير مشاهد عديدة منه في قلعة حلب. هذا ما أثار لدى السيد المحاضر عدَّة أسئلة منها: مَن هي (ميديا)، ومَن هي (كالاس)، ومَن هو (بازوليني)؟ وأي أثر فنِّي ومعماري  تشكِّل قلعة حلب؟
تطرَّق المحاضر إلى التعريف (بميديا) والتي هي ابنة (إيتس) في الأساطير الإغريقيَّة، فقد خاف والدها على نفسه من كونها ساحرة، مما اضطره إلى سجنها، وتتوالى أحداث الأسطورة إلى المأساة المفجعة التي وصلت إليها (ميديا) في النهاية، حيث قامت بقتل أبنائها انتقاماً من زوجها، الذي تزوَّج عليها بعدما قدَّمت له كل شيء. وقد أفرد المحاضر عدَّة دقائق من فيلم (ميديا) عرض من خلاله النهاية المفجعة لتلك الأسطورة، كما عرض العديد من الصور التوثيقيَّة للمحاضرة.
أما فيما يتعلَّق (بماريا كالاس) فهي مغنيَّة أوبرا أمريكيَّة ولدت في (نيويورك) لوالدين يونانيين، وعندما بلغت (كالاس) الثالثة عشرة من عمرها انتقلت مع والديها إلى (أثينا) حيث أنهت دراستها الأكاديميَّة الموسيقيَّة، وقامت بإكمال دراستها العليا في (نيويورك).
وعرض المحاضر النهاية الحزينة للمبدع والشاعر والأديب السينمائي (بازوليني) فقد عُثر عليه مرميَّاً على الشاطئ، مدهوساً بشكل مفجع،  وذلك نتيجة آرائه السياسيَّة.
أما إبداع (بازوليني) فنجده في السينما والشعر والرواية والنقد والرسم، وقد قال عنه صديقه (ألبرتو مورافيا) بعد مقتله: “لقد فقدنا قبل كل شيء شاعراً لا يولد من صنفه في كل قرن سوى ثلاثة أو أربعة”.
توالت أفلام (بازوليني) السينمائيَّة مؤكِّدة على موهبة كبيرة، ورؤية جديدة في معالجة المواضيع، من أفلامه: (طيور قبيحة وطيور صغيرة) و(أوديب ملكاً) و(ألف ليلة وليلة)..
ما يميِّز أفلامه هو استخدامه لون الأرض، وهو اللون الأقرب إلى لون بشرة الجسد الإنساني، فلا يخلو أي فيلم له من استعراض للبيوت الطينيَّة والتي تظهر وكأنها امتداد للأرض التي هي موطن الإنسان ووجوده، هذا ما يوحي لنا بمدى عمق الإحساس الذي كان يتعاظم في داخل ذلك المبدع المتعدد المواهب.
واللافت، استخدام (بازوليني) للقطات الطويلة، ولقطات (بانوراما) للوجوه والمباني، هذا ما يدعم أسلوبه في خلق لوحات تشكيليَّة مدهشة، فقد كان حريصاً على تنوُّع الملابس واستخدام قبَّعات وأقنعة عربيَّة، ويبدو واضحاً عشقه للشرق بثرائه اللوني، حيث صوَّر معظم أفلامه في طبيعته، مثل: اليمن، الهند، المغرب العربي، سورية.
أما بالوصول إلى الجانب المهم في المحاضرة فقد لا تخفى على المتابع أهميَّة قلعة حلب منذ عصور مديدة، فقد كانت مأهولة، ولها حضورها العظيم عبر التاريخ، وتمَّ اكتشاف معبد (حدد) حديثاً، توالى عليها عدد من الحضارات منها البابليَّة وتلاهم الفرس والسلوقيون والرومان والبيزنطيون والحمدانيون والدولة الفاطميَّة والزنكيون والأيوبيون، والمغول والمماليك والعثمانيون لتنتهي إلى الانتداب الفرنسي..
ففي بعض أجزاء القلعة بقايا مستوطنة هلنستية تصل إلى ارتفاع مترين، وما تزال تحتفظ بنمط شوارع العصر الهلنستي. وما تزال القلعة حاملة معالم بنائها وتطوراته على يد (صلاح الدين الأيوبي) الذي كان له الفضل الكبير بإضافة هياكل جديدة أدَّت بمجملها إلى شكل القلعة الحالي، كما عمل على زيادة عمق الخندق المرتبط بقنوات المياه، وإضافة الجسر المقنطر، والذي لا يزال اليوم بمثابة مدخل القلعة. كذلك لم تسلم القلعة من الضرر الذي ألحقه بها (هولاكو) كما أنها لم تسلم من الزلزال الذي حدث عام 1822
وأخيراً عبَّر المحاضر عن إعجابه بإبداع (بازوليني) فمن خلال أفلامه يحلِّق المرء في عالم شاعر مبدع، لا يسعى لخلق تأثير نفسي فحسب، بل يميل إلى العالم الميتافيزيقي، ويدع لنا فرصة للتخيُّل والتذوُّق لكل لقطة للغوص في عالم الحلم والدهشة، وذلك من خلال اعتماده أسلوب الجدل الذاتي الحر، واعتماده عنصر التشويش على رؤيتنا للأحداث بالتصوير ضد الشمس، وجعل ضوء الشمس يقهر عدسة الكاميرا كما في مشهد قتل (أوديب) لأبيه وحرَّاسه.
سريعة سليم حديد