ثقافة

اللغة العربية “جهود مبعثرة واجتهادات مختلفة”

تعرضت لغتنا العربية خلال سنوات طويلة للكثير من الأخطاء والمغالطات التي أثقلت كاهلها، حتى أصبح من الضروري أن يقوم علماء اللغة بدورهم في مجال إعادة تصويب الأخطاء وإعادة اللغة الفصحى إلى سابق عهدها. في هذا المجال جاءت المحاضرة التي ألقاها مؤخراً د. مازن المبارك في مجمع اللغة العربية بدمشق تحت عنوان “الـتـصحيح اللـغـوي كـلام فـي المـنهـج” وقد بدأ حديثه عن الدور الذي تقوم به المؤسسات التي تعنى بالشأن اللغوي في الوطن العربي الرسمية منها، مؤكداً تباعد جهودها وتبعثرها وأحياناً مخالفة بعضها بعضاً وخاصّة فيما يتّصل منها بالتعريب والمصطلح وجواز الاستعمال. وكان المأمول أن يكون اتحاد المجامع اللغوية المركزَ الجامعَ الذي تصل إليه المقترحات والقرارات من المَعنيّين باللغة، ثم تصدر عنه وباسمه وتُعمَّم على المجامع والجامعات والمراكز في البلاد العربيّة كلّها. كما كان المأمول أن يكون مكتب تنسيق التعريب في المغرب مركزاً لتنسيق التعريب لا للانفراد بالتعريب، لكن هذا المأمول بقي أملاً يراود اللغويّين العرب. ورأى المبارك أنه في ظل صعوبة توحيد العمل اللغويّ لظروف وأوضاع كثيرة، فإن وحدة مناهج العمل كفيلة إلى حدٍّ ما بتوحيد النتائج التي يتوصّلون إليها، وهذا ليس عسيراً على أيّ مجمعٍ لغويّ عربيّ. وفي الحديث عن اللغة  قال المبارك: اللغة  مفردات ونَظْم المفردات هي مادتها، وينضم بعضها إلى بعض باتصال مباشر أو غير مباشر باستعمال أدوات أو حروف خاصة. أما النَّظم فهو الشَّكل الظاهر الذي تبدو فيه المفردات بعد تآلفها واتّساقها في ترتيب معيَّن. وشبّه المبارك اللغة بالبناء، المفردات حجارته، مؤكداً أن جمال البناء يظهر بشكله المكتمِل لا بأحجاره، وإنْ كانت الأحجار النفيسة تزيد من قيمة البناء. من هنا اللغة بناء أقامته مفردات ليست مفرداتها وحدها. وهي نسيج مَحبْوك من خيوط أيضاً ليس بخيوطه وحدها، لكنها في ما تظهر به بشكلها العام ذوقاً وحبكاً ولوناً، كذلك اللغة أو الكلام المكتوب أو المنطوق وأشار المبارك إلى التفاوت في الدرجة من حيث الأسلوب لدى الكتَّاب من حيث نسيج لغتهم وشكل عباراتهم وتأليف جملهم، وهو أمر لا يدركه القارئ ما لم يكن من أبناء اللغة معتبراً أن اللّغة بعد أن تتشكل مجموعة في حديثٍ أو نص، سواء طال أم قَصر تصبح شيئاً آخر غيرَ العناصر التي تكوَّنت منها، ويصبح لها وجهها المشرق المعبر عن عبقريتها وعن قدرة مُنشئها مؤكداً أن الذين يُجيزون اليوم للمتحدِّثين والكتّاب أن يستعملوا كلَّ ما هبّ ودبّ ونطقتْ به أفواه العامّة، محاولين تسويغه تفصيحاً للمفردات أو تخريجاً للوجوه النّحوية، إنما يسيرون في طريق تشويه اللّغة. وتحدث المبارك عن الجهود التي يقوم بها اللغويون فيما يتعلق بموضوع التصحيح اللغوي مشيراً إلى الكتب والأبحاث والمقالات، وتوقف عن بعض الأمور التي يجب التنبه فيها والحذر منها في هذا المجال، منها أخذ بعض العاملين في التصحيح اللغوي بالأشيع والأكثر انتشاراً، وهذا إن صح قديماً عندما كانت اللغة على كل لسان، لا يصح اليوم لتراجع المعارف اللغويّة، إضافة إلى أن كثيراً من الكتّاب لا يفرقون بين معاني الكلمات التي تحمل معنىً عاما ويستعملونها وكأنها واحدة أو مترادِفة، ثم نجد كثيرين ممّن كتبوا في التصحيح اللغويّ يَطمسون المعانيَ المختلفة والفروق الدقيقة بين معاني الكلمات. وعرض المبارك الكثير من الأمثلة خلال سير المحاضرة مؤكداً أن النقد الذي يلاحق الأسلوب أجدى على اللّغة من النقد الذي يلاحق الإعراب، وأقْوَم من النقد الذي يلاحق المفردات، وهذا الذي نفتقده اليوم في كثير من مجالات التصحيح اللغويّ. كما قدم المبارك وجهة نظره لما يمكن أن يأخذ به من يعمل في المجال اللغوي عند تقديم الآراء والمقترحات وإصدار القرارات، ومن ذلك تأكيده على أن ما يساعد على التصحيح والتدقيق أن باب الزيادة مفتوح، لأن المعجمات لم تستوعب لغةَ العرب، كذلك ضرورة إحياء آلاف المفردات غير المستعملة والانتباه إلى أن شيوع الكلمة في عصر ما  لا يعني ضرورة الأخذ بها، أو إقرارها وعدم المسارعة إلى إصدار حُكم لغوي أو فتوى نحويّة لا حاجة إليها. كذلك أوضح المبارك أهمية العمل على تَوْطين العلوم الذي لن يتم إلا عندما يَملك الطلّاب والمختصّون علومَهم بلغتهم، وينتجوا العلم بلغتهم ليدخلوا في سلك الأمم التي تصنع الحضارات.
جلال نديم صالح