ثقافة

الكوميديا السوداء متورمة!

رغم أنها خمس سنوات فقط، وفي هذه المدة القصيرة نسبيا من حياة الشعوب، لا يحدث عادة أن تصبح الأمور التي اعتادها الناس وعاشوا تفاصيلها بأوطانهم ذكرى بل وذكرى بعيدة أيضا وكأنها منذ قرون خلت، لكن هذا ما حدث ووقع وأصبح سار المفعول بين السوريين بالفعل، حيث ما من سوري تتبادل وإياه أطراف الحديث –في البيت –السوق- وسائط النقل- المخبز- إلا و يحضر إلى الحديث في الحال ذاك الماضي الذي ليس بالبعيد، وذاك بالمقارنة بين الأحوال المعيشية  المتردية اليوم وما كانت عليه قبل الحرب على سورية وليس الأزمة –حيث لا يصح تسمية ما يحدث في سورية على أنه أزمة لأنه في حقيقة الحال ما يحدث حرب-. من منكم لم يحدث معه هذا ؟ من منكم لم يدخل في نقاش حول ما كانت عليه الحال وما آلت أليه ومع مختلف شرائح المجتمع ، بدء من سعر قرص الفلافل وليس انتهاء بالذهب؟

واقع الحال اليوم يشير وبوضوح إلى عدم قدرة الأسرة السورية على توفير ربع ما كانت تستهلكه يوميا منذ خمس سنوات، حتى أن النكتة الدراجة اليوم بين الناس- و التي يترافق ظهورها والأحداث المأساوية غالبا، كون المفارقة التي تنتج الكوميديا السوداء فيها، آتية من رحم الألم والمعاناة والوجع- هي في عمومها تتموضع حول هذا الحال، والفرق الهائل الذي يحيا على متناقضاته السوريون وكأنهم لاعبو أكروبات ، يقفزون مع الدولار ويقعون نكسا على رؤوسهم على إيقاع الجيب الفارغ.

لكن ما يعنيني شخصيا في الموضوع –على اعتباري من المتضررين وبشدة أيضا وعلى مختلف الأصعدة- أجد أن كل ما جرى وما يجري من أهوال وخطوب ،على مشقته وفداحته وقسوته، لم يفقد السوريين حس الدعابة والروح المرحة، المستعدة دائما للضحك ،وكأنه –الضحك- وجبة غنية بالبروتين وباقي العناصر الغذائية المغذية، وهذه الروح الحية والخصبة، هي من يبقي الويلات محتملة ويبقي الأمل مرتسما في الضمائر والقلوب، بأن ما مضى وانقضى سيعود وأن هذه العاصفة الغائمة والمكفهرة ستنقضي وما هي إلا سحابة صيف، رغم مطرها الأسود، ناكئ الجراح وراوي الألم.

هذه الروح هي ما يُخشى عليها عادة في المصائب والحروب، فهزيمة الروح هي ما يسعى أليها صانعو هذه الحرب وغيرها من الحروب بمموليها وعملائها في الخارج والداخل.

إلا أن هذا لا يعني بحال من الأحوال أن يكون الفساد المستشري في الجسد السوري كسرطان مستشر بلا علاج، ودون عمل جاد و دءوب من الجميع للتخفيف من حدته ووطأته على الناس المبتلين بالموت الذي يتنزه في البلاد كواحد من ضروب الدهر عليهم.

وما نحياه ونسمعه من حكايات حقيقة وأحداث يمر به السوريون في كل لحظة من حياتهم، بدء من استيقاظهم باكرا كي لا يسبقهم أحد إلى الألم كما قال السوري المجيد “محمد الماغوط” حتى  ولوجهم إلى عتبة النوم –راحتهم المتفكهة الوحيدة-  يؤكد أن الكثير من الويلات الأخرى كالجوع والبرد والحياة على ضوء الشمعة وفقدانهم الكثير  الكثير من الأساسيات التي صارت متعا ونادرة أيضا –بالنسبة للفقراء طبعا،على اعتبار أن هناك شريحة من شرائح المجتمع السوري، تمر بها الحرب وكأنها لم تفعل- ليست من نتائج الحرب التي لا راد لها ، وبالمقدور العمل لمن يريد أن يعمل بضمير لتخفيف حدتها ووطأتها على الناس.

الكوميديا السوداء التي تنتجها الروح السورية التي هزمت الموت بالحياة ، تستحق أن نتأملها ونقف عندها مليا، مصغين لأدنى نأمة تصدر عنها، فهي أصبحت  كالبالون الذي تم نفخه ونفخه حتى لم يعد يتسع لأي نفس أخر!

تمام علي بركات