ثقافة

فاخرٌ أكثر.. وعاقلٌ أكثر

سيرة الكبار لا تكتبها الأقلام وحدها، بل هي كل ما يمكن استنباطه من أعمالهم وإنجازاتهم في مراحل حياتهم المتتالية، وفاخر عاقل اسم وسيرة تخلدهما الأعمال والإنجازات؛ بل لعل في اسمه تجسيداً للقول: “لكل من اسمه نصيب” الذي لا يمكن له إلا أن يكون فخراً ليس في سورية فقط، بل في العالم العربي؛ بما جاء به من علم ومعرفة، وما قدمه عبر سني حياته والذي كرسه عَلماً ومنارة وصاحب أفكار تستحق التأمل والبحث؛ وصاحب نظرة ثاقبة وجريئة، لم تتوان عن نقض العديد من النظريات الفرويدية، وإنكار أنه أول القائلين بالتحليل النفسي؛ أو العقل الباطن، ليخرج بنظريته الخاصة المتأتية من دراسة متعمقة ومعرفة واسعة والتي تقول بأن: “الحب هو الحاجة الأهم لدى الإنسان، وأن الإنسان السوي السليم بحاجة إلى أن يُحِب، وأن يتلقى الحب، وأن هذا الشعور هو الحافز الأول، بينما أنكر النظرية التي تقول بأن لدى الإنسان 14 غريزة تسيره مع الانفعالات التي تقابلها، إذ رأى أن الغريزة بالمعنى المتعارف عليه “كصناعة فكرية مكتملة منذ الولادة” لا تتواجد لدى الإنسان بل هي حيوانية فقط، بينما يمتلك الإنسان “حاجات” تولد لديه الدافع والحافز، كي يسعى ويعمل لقضاء هذه الحاجات.

حياته

ليس أصدق منه كي يورد سيرة حياته التي أوردها في كتابه “هذا أنا” فعاقل ولد في بلدة كفر تخاريم في العام 1918، لأب موظف تنقل في العديد من المناطق، تلقى علومه الأولى في حلب، ومنها انتقل إلى الجامعة الأميركية في بيروت وتتلمذ على يد قسطنطين زريق وروشردوغ؛ فنال شهادته في علم النفس؛ ثم تابع دراسته في دار المعلمين في دمشق، بعدها تم إيفاده إلى إنكلترا ليعود منها بشهادة الدكتوراه في علم النفس، رافضاً عروض العمل فيها مقابل منحه الجنسية البريطانية، عمل في جامعة دمشق رئيساً لقسم علم النفس، ودرّس التربية وعلم النفس لأكثر من أربعين عاماً، اشتغل في الكويت واختير للتعاون مع منظمة اليونيسكو مندوباً في الأوروغواي، مصر، والأردن حيث انتدب لتأسيس مركز التربية الأساسية” فيها، وشارك في إنشاء الجامعة الأردنية في عمان، ثم عاد إلى دمشق فعمل مع وزارة التعليم العالي إلى حين التقاعد.

في الأردن أثر
عن الأثر الذي تركه في الأردن، هذا الشاب الدمشقي الأنيق، المتعلم المتواضع الذي يحمل شهادة الدكتوراه، تحديداً في قرية حوارة التي عمل فيها كتب هشام غرايبة: “من في حوارة لا يعرف ولا يتذكر الدكتور فاخر عاقل، كان أستاذاً في دار المعلمين الريفية، وكانت عند اسمها فلم يتخرج في سنتها الأولى ستة عشر معلماً مؤهلاً فحسب، بل أهلت قرية بكاملها، لتكون نموذجاً لغيرها، بفضله صرت ترى الكبار وهم يحملون فوانيسهم؛ يؤمون المدرسة التي تضاء ليلاً لتعليم الكبار ومحو الأمية، أنشأ أول ناد رياضي ثقافي فيها؛ أول جمعية خيرية، وأول روضة للأطفال أنقذتنا من عصا الكتاب”.
يعتبر الدكتور عاقل من مؤسسي علم النفس في سورية وساهم في إرساء هذا العلم مع عدد من المتخصصين، كجميل صليبا، الدكتور كامل عياّد وحافظ الجمالي، وساهم في افتتاح المعهد العالي للمعلمين/كلية التربية حالياً، شكلت كتبه التي تدرس في جامعة دمشق وفي عدد من الجامعات العربية مراجع علمية للطلاب والمتخصصين، أعيدت طباعة أغلبها لأكثر من مرة.

أعمال ومنجزات

اعتاد “العالم المعلم طويل القامة الذي يسرح شعره إلى الخلف، وعندما يتحدث؛ يحرك سبابته كمن يتشهد” وهكذا كان يصفه طلابه أينما حلَ عليهم معلماً ومربياً، اعتاد أن يفاخر بإنجازاته جميعاً لكن الأهم كانت أبناءه؛ ومؤلفين اثنين هما “معجم العلوم النفسية” وفيه ما يقارب ثمانية آلاف مصطلح، و”القاموس الأول للمتخصصين في علم النفس” باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية، إضافة إلى علم النفس التربوي، أصول علم النفس وتطبيقاته على التربية، المفردات الأساسية للقراءة، نظريات حديثة في التعلم، أسس البحث العلمي في العلوم السلوكية، والعديد من الكتب والمقالات والدراسات المنشورة في الصحف والمجلات العربية المتخصصة، أجاد إلى جانب العربية اللغتين الإنكليزية والفرنسية، كرم أكثر من مرة، ونال وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة، وقدم مكتبته التي يتجاوز محتواها 4500 كتاب، هدية إلى مكتبة الأسد الوطنية، لتبقى ذكراه مخلدة بعطاءاته وأعماله وأجيال نهلت من علمه، وليكون كما اسمه تماماً فاخراً وعاقلاً أو كما قال له الحصري يوماً “أنت فاخر أكثر وعاقل أكثر”..
بشرى الحكيم