ثقافةصحيفة البعث

عبد الرحمن الحلبي في الذاكرة

أمينة عباس

في المكان الذي كان يطلّ من خلاله على جمهور كبير وحريص على حضور برنامجه الإذاعي الشهير “كاتب وموقف” المركز الثقافي العربي -أبو رمانة- جلس أصدقاء أوفياء لمسيرته الطويلة، إحياء لذكراه وهو الذي رحل بجسده ليبقى ما تركه من أثر في حياتنا الثقافية التي جال فيها مسلّطاً الضوء على كل مُنجز يستحق الوقوف عنده عبر برنامجه الذي امتد لنحو نصف قرن، وتوقفت عنده الإعلامية هدباء العلي باعتباره كان أحد أعمدة الإذاعة السورية، مبيّنةً أنها عرفت الراحل في فترة متأخرة من حياته، لكنها كانت متابعة لبرنامجه ومدافعة عنه عندما كانت عضواً في لجنة البرامج في إذاعة دمشق، لأنه برنامج نوعي يستحق أن يكون حاضراً بقوة ضمن خريطة البرامج في إذاعة دمشق: “مفخرةٌ للإذاعة أن يستمر برنامج كاتب وموقف مدة أربعين عاماً، وليس من السهل أن يمضي الإعلامي في هذا الاجتهاد والدأب والقدرة على التجدّد كما كان عبد الرحمن الحلبي الذي قدم نموذجاً للإعلاميّ المتميز نوعاً وأداءً”، وكان جديراً برأي العلي أن يقوم بتدريب مذيعين جدد لضمان استمرار البرنامج بمحتواه القيّم وقيمته كبرنامج يتناول قضايا ثقافية ملحّة بنقدٍ بنّاء وبهامش كبير من حرية التعبير، وهذا ما سجل للحلبي جرأته وشجاعته في الطرح والموضوعيّة، متمنية أن يبقى البرنامج مرجعاً للعاملين في إذاعة دمشق ولكل طلّاب الإعلام لأنه استثناء لم ندرك أهميّة وجود صاحبه بصوته وقدرته على التعبير: “وقد كان البرنامج فضاءً حراً ومنبراً واسعاً تعدّد فيه الضيوف الذين كانوا على مستوى عالٍ من الأهميّة، وطرح فيه الراحل قضايا كثيرة قارب فيها ظواهر أدبية واجتماعيّة وفنيّة، وبرحيل صاحبه فقدت إذاعة دمشق أحد أركانها، موضحة أنها استضافت الحلبي في أحد برامجها في الإذاعة ولمستْ كم كان شغوفاً ومُحبّاً لعمله ووفياً لكل ما طرح من أفكار، وتذكرت أنه قال حينها إنه لن يتوقف عن الحلم وهو الذي قدّم الآخرين على نفسه ليرتقي بالفكر والمتلقي، فاستطاع أن يقدم رسالته بأسمى وأنبل شكل ممكن في الإذاعة التي ستعتز دائماً بأنه أحد أعلامها: “سيبقى حاضراً ومرجعاً لنا جميعاً”.

وفي حديثه وصف الكاتب والإعلامي داوود أبو شقرة عبد الرحمن الحلبي بالظاهرة التي قد تكون فريدة في الإعلام العربي والسوري، وخاصة في مجال المُحاورة التي كان يتقنها مع ضيوفه في البرنامج: “يمكن لأي إذاعة أن تسخّر طاقماً كاملاً من المذيعين ومقدّمي البرامج، لكن هناك شخص واحد يستطيع أن يحاور، فالمحاورة لا تنطلق من مسألة التقديم والتعليق وتقديم الضيف أو المنتَج وإنما وضع مقدّمة وصورة تاريخيّة بشكل موضوعي ومناسب لإسقاط المادة على الواقع وربطها به وتقديم رؤية نقديّة”، مبيناً أن البرنامج ومقدمه كان من هؤلاء النادرين الذي مرّوا في تاريخ الإعلام السوري والعربي على صعيد اختيار الموضوعات والضيوف والمناقشة الوافية: “كانت لديه قدرة عجيبة في استقطاب الآراء المختلفة والمتنافرة في برنامجه الذي كان يشكل هاجساً لدى المثقفين والمفكرين والكتّاب بأن يكونوا ضيوفاً فيه، وهذه حالة فريدة نجح فيها الحلبي الذي كان يتابع موضوعه قبل أن يُذاع وبعد أن يُذاع ويتابع ضيوفه وكأنه يسجل لنا تاريخاً، ولو سألتَه عن أي مبدع سوري يستطيع أن يقدّم لك سيرة ذاتيّة عنه لأنه كان مهتماً وكانت تشغله ثقافة بلاده وهويّتها” منوهاً أبو شقرة إلى أنه لم ننتبه كثيراً لأهميّة هذا البرنامج الذي لم يأخذ صاحبه حقه”.

وبرأي الإعلامي علي الدندح -مدير الحوار- كان عبد الرحمن الحلبي واحداً من أهم الإعلاميّين السوريين الذين نذروا أنفسهم للمشهد الثقافي ومتابعته رصداً وتحليلاً وتوثيقاً عبر برنامجه الذي لم يترك فيه الحلبي قضية ثقافيّة يمكن أن تخطر في البال إلا وعمل على نقاشها مع من هم أهل لذلك، ليكون أهم برنامج حواريّ في الإذاعة وقد أصبح منبراً ثقافياً يألفه أصحاب الكلمة والنخبة والقاصي والداني لنجاحه في متابعة الحركة الثقافيّة عبر فترة تزيد عن الأربعين عاماً قدم فيها الراحل تجربته في الإعلام والثقافة والأدب والنقد والفنون: “عندما يموت الإنسان يبكيه كل أصدقائه، وعندما يموت المبدع يبكيه كل العالم”.

وعن الجوانب الأخرى في حياة الراحل، تحدث ابنه وائل ليكشف للحضور أن والده كان قاصاً وناقداً وكان يكتب زاوية ثابتة في مجلة “عالم المعرفة”، بالإضافة إلى ما كان يكتبه من مقالات في العديد من المجلات، وكان خطاطاً ومتابعاً لقضايا الفكر، وكانت ثقافته الواسعة سرّ نجاحه إلى جانب حبه لعمله وإتقانه له، واستضاف في برنامجه شخصيات أدبية عربية مهمّة مثل عبد الكريم الكرمي وعبد الله البردوني وأحمد دحبور وعبد الوهاب البياتي وواسيني الأعرج، وغيرهم، وتوسّع في برنامجه في مجالات كثيرة، وخاصة في المجالات الإنسانية والفنية بكل أنواعها، وكتب للإذاعة وعمل كمدقق لغوي لبعض الأعمال التلفزيونية: “كان يعشق اللغة العربية التي كان يتقنها، وكان حريصاً على اختيار عناوين ملفتة لندواته، وطرحَ موضوعات تهمّ كلّ الناس، وتنقّل عبر برنامجه بين المحافظات السورية، وحين رحل لم يكن إلى جواره سوى كتب مكتبته الضخمة”.