ثقافةصحيفة البعث

حنين ثلاثي الأبعاد

قالها لي بلا أي تردد.. للأسف أنت مصابة بالحنين.. الحنين يا ابنتي كثير الأذى.. يخرب الروح بهدوء دون أدنى ضجيج.. يشبه النسيان وأفعاله إلى حد ما.. هكذا قال لي الطبيب الهرم عندما ذهبت إليه شاكية رغبتي الدائمة بالبكاء.. سألني بقلق واضح.. ما درجة هذا البكاء، وبأي الأوقات يزداد؟! فأجبت بوجه على حافة البكاء: هو أشبه بجريان النهر يا حكيم، لكن دمعة واحدة لم تنزل لتؤكد إصابتي بهذا الحنين الغادر، ولا وقت محدد له فهو يأتي على شكل نوبات من حين إلى حين..!

مع هذا بقي الطبيب مصراً على إصابتي بحنين مزمن وقال: أول علامات الشيخوخة أن يعيد الإنسان رواية الحكاية مرة ومرتين وثلاثاً، وأول علامات الحنين أن يستمع إنسان آخر إلى الحكاية نفسها مرة ومرتين وثلاثا..

لكن الحنين يا حكيم هو صحوة الذاكرة في الثالثة صباحا كطفل رضيع يفرض على الجميع وجبة البكاء الخاصة به. يالله ما أنا فاعلة رويت الحكاية كثيراً، واستمعت إليها أكثر وأكثر..! فأنا أحن إلى أبي المتقاعد وهو مازال أمام ناظري وعلى قيد الحياة تقريباً.. أراه وهو يراقب أحداث الحرب بصبر وقلب مقهور بلا أي حيلة.

أحن إلى أمي.. أمي.. أمي وليس خبزها.. أحن إلى صحوها عند الفجر لتتأكد أننا مازلنا نياماً ولم يخطفنا الموت لسبب ما.

أحن إلى اسمي حين كان من أمي وأبي قبل أن أصبح “أم فلان”.. أحن إلى الأشياء قبل أن تصبح لها أسماء.. أحن لأغنية لم تعد تُبث الآن.. وفيلم سينمائي صار ممنوعاً من العرض، وأحن للمسرح وأنا واقفة على خشبته.. إلى أهله الأصيلين فلم أحن يوماً إلى البديل.. أحن إلى النسخ القديمة لبعض الأشخاص.. أحن لمواويل  حبيبي، فرغم نشاز صوته كنت أجده أجمل الأصوات.. أحن للسلام.. للأمان.. أحن لأيام الجامعة بكل ما فيها من جمال وخيبات.

الحنين يا حكيم نزيف الذكريات.. عندما تصادف حبك الأول بمعية حبه الثاني وبينهما ولد ليس له من اسمك نصيب.. أحن إلى وجهي قبل التعب.. قبل الحرب.. أحن يا حكيم إلى الذي لم أكنه.. أحن إلى الذين هاجروا إلى كل الجهات، وإلى الذين غابوا أو تغيبوا.. أحن لأصواتهم فلا شيء يشبه الغياب..!

أحن إلى البلد.. أحن إلى الشام وأهلها.. إلى الذي لم يبق من الشام.. أحن إلى صوتها يرن الآن بين جدران قلبي الفارغ.. الفارغ تماماً.. الحنين يا حكيم  أن تمشي بقدميك إلى الأمام وقلبك يمشي إلى الوراء.

لينا أحمد نبيعة