ثقافةصحيفة البعث

نجاح حفيظ ترفل في الغياب

 

أكثر من 50 عاما مرت، وما زالت شخصية “فطوم حيص بيص” هي الشخصية الأشهر والأهم والأكثر حضورا عند الجمهور المحلي والعربي، في مسيرة الفنانة الراحلة – 1941-2017- التي حلت ذكرى رحيلها منذ أيام قليلة-السادس من أيار، لم نعرف الكثير عن مناديلها الطائرة كنوارس بحرية، إلا أنها أرخت شيئا من مشقة تلك الغصات التي بقيت عالقة في روحها، وذلك في حوارها مع إحدى الصحف، حيث قالت: “أنا لا أملك شيئا أعطيه غير فني، وليس هناك أي نوع من التواصل معي من قبل النقابة أو المخرجين، وبأن كثير من الفنانين لا نراهم على الشاشة، وفنانين لم نسمع عن سيرتهم الفنية إلا بعد وفاتهم، عندما يكرمونهم لمدة نصف ساعة على الشاشات وينتهي الأمر” الكلام الذي يدل على النكران الذي قوبلت به هذه السيدة، التي تُعتبر من أعمدة الدراما السورية بأنواعها، عدا عن كونها من الجيل المؤسس للتلفزيون ودراماه التي صارت الشغل الشاغل للناس، حيث تظهر الآن صبية ذات قد ميال، وضحكة مغناج وكأنها سلعة موضبة ومعدة للبيع، لتحل محل “فطوم حيص بيص” بمفهوم مغاير 180 درجة لمفهوم المرأة التي قدمتها “حفيظ”، “المرأة” التي دوخت ثلاثة رجال وقعوا في غرامها، بينما قلبها كان ملك أحدهم، حتى لو عاندتها الأقدار وجعلتها تختار “ياسينو” عوض “غوار” وهي السيدة المستقلة مادياً واجتماعياً، وصاحبة “أوتيل صح النوم” الذي قدم شخصية المرأة “الشامية” بكل تلك القوة واللطف والشهامة التي قدمتها بها، ليختفي بعدها هذا النوع من الشخصيات، ولتحل محله شخصيات مهزومة لنساء محكومات بالثرثرة، و”طق الحنك”، عدا عن تورطهن في تقديم صورة ولا أسوأ عن المرأة الدمشقية، التي كان لـ “نجاح حفيظ” عظيم الأثر في تبيان حقيقة شخصيتها، وطبيعتها المحبة والقوية والقادرة على اتخاذ القرار، حتى و”الشوارب” تحيط بها من كل جهة.
ورغم وفرة الأعمال الدرامية التلفزيونية التي شاركت فيها “حفيظ” – أكثر من 50 عملا- إلا أن أغلب هذه الأعمال حجمتها، وحجمت دورها الكبير ومعناه المهم الذي جرى تحطيمه بشكل ممنهج في الأعمال الدرامية التلفزيونية – الشامية منها بالتحديد- التي قدمتها بصورة الأم المغلوب على أمرها، أو السيدة المهيضة الجناح، غير القادرة على إعالة نفسها أحيانا، بينما عرف مخرج كبير من وزن “خلدون المالح” ونص كتبه كل من الراحل “نهاد قلعي” و”دريد لحام”، أن يقدموها فيه بالطريقة التي ستلج القلوب بلا استئذان، هذا عدا عن كونها كانت محرضا كبيرا، لكثير من السيدات اللواتي امتهن التمثيل فيما بعد.
أيضا ملاحظة مهمة يمكن إيرادها في حياة هذه السيدة العظيمة، التي اشتغلت في مهنة التمثيل، في فترة كانت فيه مستهجنة للرجال، فما بالنا بــ “القوارير” حسب توصيف المجتمع للنساء، ولم تبالِ بكل ما وجه إليها من انتقادات حادة، بعد أن أدركت أنها تعمل حيث يميل قلبها وتستكين روحها.
نجاح حفيظ أو فطوم حيص بيص، التي لم تنجب أولادا في حياتها، تعاملت مع كل دور قدمته وكأنه ابنها، وهكذا عوضت بالفن الذي نذرت له حياتها، عن الحياة التي تحلم فيها كل امرأة، تؤثر سلام العائلة وسكينتها، على الأشغال التمثيلية الشاقة، أما هي، وبلا أي بهرجة تذكر، أو فلاشات كاميرات تعمي الأبصار، وبلا سيلفي لا يكل ولا يمل، وبدون مواقع تواصل اجتماعي، تظهر عليها صورها بين الدقيقة والأخرى كما يحدث بين فنانات اليوم في العالم اجمع ولدينا بشكل خاص، استطاعت في كل مرة تم عرض أعمالها الأهم، أن تكون هي النجمة والسيدة المحبوبة عند الجمهور، والعاشقة المستعدة للوقوف إلى جانب حبيبها حتى اللحظات الأخيرة من الأمل، ولسوف يكون حالها دائما بهذا الألق، حتى وهي تلوح بمنديلها من تحت التراب، للحياة التي لوحت فيها للفرح، كما لوحت فيها للأسى، لكنها بقيت ابنة الشام الطيبة القوية المستقلة، ابنة بيئتها في الصورة المشرقة التي قدمتها عنها ومنها، والتي سعى العديد من تجار الدراما إلى تشويهها وتحويلها إلى بيئة صالحة للنخاسة وبيع الجواري.
نجاح حفيظ، ودعت حارات دمشق التي ألفتها كما ألفت خطوط يديها، ومن أبوابها السبعة سوف تدخل في ذات الوقت، تاركة على كل قوس باب، بصمة أصابعها الخمسة، كعمل أخير تقوم فيه قبل أن تغادر أبدا، لترد الأذى عن دمشقها وسوريتها التي لم تغادرها، حتى وهي تشعر بالإهمال الذي هو أشد قسوة من الموت والهجر.
تمّام علي بركات