تحقيقاتصحيفة البعث

تبحث عن الدعم قرية برد في السويداء.. يوميات في العمل والمواجهة مع الإرهاب.. ونموذج للاقتصاد المقاوم

 

قبل أيام ليست ببعيدة كان الوصول إلى قرية برد يحتاج إلى الكثير من الحسابات، القرية المستهدفة بالقذائف تقع جنوب غرب محافظة السويداء، بالقرب من قرى: بكا، وذيبين، والقريا، على بعد نحو 25 كيلومتراً عن مدينة السويداء، يسميها سكانها “القرية المنسية”.

قذائف يومية

أم رائد تراقب من نافذة منزلها العمليات العسكرية التي تدور في المنطقة.. وجودها في مكان مرتفع ومكشوف سهّل عليها عمليات المراقبة والرصد والمتابعة ليوميات الحرب التي دارت هناك.

“81 قذيفة سقطت في يوم واحد”، تحدثت عن إحدى يوميات الحرب، وعيونها تتنقل بين الفتحات التي خلّفتها تلك القذائف في جدران منازل القرية، تتابع حديثها عن حركة الطيران في الأجواء، والعمليات الدقيقة التي نفذها في الأيام الماضية، وكذلك سلاح المدفعية.

أم رائد كغيرها من أبناء القرية أصبحت تتقن الحديث عن صنوف الأسلحة العسكرية، والتكتيكات المستخدمة، وأهمية الأماكن التي تتقدم إليها وحدات الجيش، والأهمية الاستراتيجية لتلك الأماكن كونها أماكن حاكمة، وغيرها الكثير من المصطلحات التي فرضها قرب المعارك على حديث المواطنين اليومي، إلا أنها تتمنى أن تعود الحياة كما كانت سابقاً، “سبع سنوات كانت قاسية”، تختصر أم رائد وصف الحالة قبل أن يدخل زوجها الستيني على الحديث الذي غاب عنه لبعض الدقائق كان يقوم خلالها بمحاولات إصلاح إحدى القطع الكهربائية.

أواني صناعة القهوة المرة المرتّبة في إحدى زوايا مضافته تدل على أن تلك القهوة لم تنقطع يوماً، حالة تضع اليد على كافة الأفكار التي تجول في خاطر زائر القرية عن أسباب تمسك السكان بالعيش في قريتهم المحاذية للإرهاب.

“لا يمكن أن نترك منازلنا مهما كانت التحديات”، قالها المدرّس المتقاعد، وعينه ترنو إلى آلاف الدونمات التي سيطر عليها المسلحون، ومنعوا المزارعين من استثمارها، مجرد تركنا لمنازلنا ستتحول إلى أوكار للإرهابيين، ومنطلق لاعتدائهم على المحافظة”، يجمل الأسباب في هذه العبارة التي تسهل الكثير من عمليات الشرح التي قد لا يتقن الكثير من أبناء القرية توضيحها للسائل، فمستوى الحالة الوطنية المتقدم في نفوسهم قد يجعل عمليات التعبير عن هذه الحالة تصطدم بضعف التعبير.

حسن الجوار

أبو رائد، وكما هم أبناء القرية، حريص على علاقات حسن الجوار مع جيرانه في بلدتي بصرى الشام وصماد اللتين لا تبعدان أكثر من 3 كيلومترات عن القرية، كانت تربطهما مع أهالي برد علاقات اجتماعية واقتصادية يحرص الجميع على الحفاظ عليها.

قصص تعامل المسلحين مع السكان في بلدتي بصرى وصماد ولّدت قناعة عند أهالي القرية بأن سكان تلك البلدات غير راضين عن تصرفاتهم، ودليل ذلك خروج أكثر من 400 أسرة منهما إلى محافظة السويداء.

وقف أبو رائد يصف لنا بدقة الآثار التي خلفتها القذائف، محاولاً جاهداً إعادة رسم مشهد دخول إحدى القذائف إلى مضافته، وتجولها في بعض أركانها مخلّفة الخراب لبعض منها، الابتسامة التي زيّنت وجهه الذي مازال محافظاً على نضارته رغم تقدم العمر تدل على حجم كبير من الأمل يحمله في داخله رغم وجوده في منزل يشكّل دريئة لباقي المنازل لجهة تساقط القذائف.

المدرّس المتقاعد منذ عشرين عاماً يجد أن محاربة الفساد باتت ضرورة ملحة، فالكل معارض للتصرفات السيئة، ولكن بشرط أن تكون تلك المعارضة ناتجة عن وعي وقراءة واقعية للواقع.

حديث الحرب

العلاقة بين برد وبصرى الشام تختصر المشهد السوري كاملاً، هكذا يرى أبناء القرية المشهد، حديث الحرب هو حديث دائم في معظم الجلسات التي يعقدها أبناء القرية، وإن كان مطعّماً في الكثير من جوانبه بحديث السياسة، فالهموم اليومية، والمشاكل الحياتية غالباً ما تكون في ذيل جدول أعمال تلك الجلسات الحوارية، فالأهم بالنسبة لهم هو انتهاء الحرب.

علي طرابيه واحد من عشرات الشباب الذي أصروا على البقاء في القرية رغم كثرة الفرص المتوفرة أمامهم مقارنة مع انعدامها بالتوازي مع قرار البقاء، ورغم أن ضريبة البقاء كانت صعبة على علي وأسرته كباقي أسر القرية جراء الخوف الذي لازم حياتهم بشكل دائم، إلا أن هذه الضريبة هي أقل بكثير من أي خيار آخر، يقول علي: “فنفس الرجال يحيي الرجال” بالنسبة له، فقرار رجال القرية البقاء، إضافة إلى تواجد عدد من عناصر الجيش على مقربة منهم، كان حافزاً للجميع على البقاء رغم كل محاولات المجموعات المسلحة الضغط على الأهالي ودفعهم لترك منازلهم، وأول محاولة من هذا القبيل مازال الأهالي يتذكرونها جيداً، وهي اختطاف مختار القرية من قبل تلك المجموعات، ومن ثم قتله بدم بارد وبطريقة بشعة أثارت الخوف بين السكان، وعبّرت عن حالة حقد كبير تحملها تلك المجموعات، وفي الوقت نفسه أوصلت رسالة واضحة للأهالي الذين كان ردهم التمسك ببيوتهم وأرضهم مهما كان الثمن، وهذا ما حصل.. هي واحدة من عشرات القصص التي لن تمحوها الأيام القادمة من ذاكرة الأهالي، كما يقول علي.

خسائر كبيرة

في نظرة بانورامية إلى المنطقة يدرك الزائر حجم الخسائر التي تكبدتها القرية زراعياً، آلاف الدونمات من الأراضي المزروعة بالزيتون والفستق الحلبي خارج دائرة الاستثمار منذ أكثر من خمس سنوات، فالوصول إلى هناك أمر شبه مستحيل، فكامل المنطقة مفخخ، والتعديات طالت معظم البساتين، سواء بالحرق، أو القطع، إلا أن تلك الأشجار بقيت صامدة في وجه الإرهاب كما السكان.

يقول رئيس الجمعية الفلاحية ثائر طرابيه: مساحة أراضي القرية تصل إلى نحو 6 آلاف دونم، منها 2500 مزروعة بالأشجار، وأكثر من 1700 دونم هي أراضي محاصيل، معظم تلك الأراضي كانت مخدمة بشبكات الري التي سرقتها المجموعات المسلحة، ويزيد مجموع طولها عن 500 ألف متر.

يطالب رئيس الجمعية، كما كل السكان، بتشكيل لجنة لتقييم الأضرار التي لحقت بالسكان، وتعويضهم التعويض العادل.

حساب زراعي

بالعودة إلى حساب الورقة والقلم فإن خسائر القرية الاقتصادية تقدر بأكثر من مليار ليرة، فمجموع الأشجار المثمرة عندهم يزيد عن 50 ألف شجرة زيتون وفستق حلبي تمت زراعتها، حسب رئيس الجمعية الفلاحية، ضمن مشروع الحزام الأخضر عام 1984، أي أن عمر تلك الأشجار 35 عاماً، وبحساب الإنتاجية نجد أن الخسائر خلال السنوات الخمس الماضية تزيد عن مليار ليرة، حيث لم يستفد أبناء القرية من تلك الأشجار حتى لو بقطفة زيتون واحدة، والنتائج اليوم في ظل عدم الرعاية والاهتمام، وكذلك القطع والحرق الذي تعرّضت له تلك الأشجار، هي إعادة الزراعة، أو التربية لتك الأشجار من جديد، أي العودة بها إلى 35 عاماً سابقة.

سرفيس للخدمة

المبادرة التي تعتبر الأهم برأي الأهالي هي شراء سيارة سرفيس تم شراؤها من تبرعات المغتربين التي تم تقديمها لقرى المحافظة دعماً لصمودهم، في وقت اتجهت معظم القرى لشراء السلاح المتوسط والخفيف، كان خيار أبناء القرية شراء سرفيس للخدمة، فالحرب برأيهم ستنتهي، وسيكون مصير تلك الأسلحة في المستودعات، أو الاستخدامات الخاطئة التي قد يدفع المواطنون ضريبتها، أما هذا السرفيس فيشكّل حالة تكامل وجمع بين أبناء القرية، حيث يقدم كافة خدمات النقل، في وقت ترفض وسائل النقل الأخرى التوجه للبرد تحت مبرر “منطقة غير آمنة”، والأهم هو نقل الطلاب إلى مدارس بلدة القريا المجاورة، حيث مدارس التعليم الإعدادي والثانوي.

اكتفاء ذاتي

اللافت في برد هو الإصرار على البقاء رغم انعدام أدنى سبل العيش في القرية التي حاصرها الإرهاب طيلة السنوات السابقة، فاتجه السكان نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي عبر استثمار المساحات المحدودة حول منازلهم، لتتحول اليوم إلى بلد مصدر لبعض الخضروات كالبقدونس مثلاً، حيث تنتج معظم منازل البلدة هذه المادة التي تغطي جزءاً لابأس به من الأسواق المجاورة.

ولصندوق التنمية في القرية دور كبير في تشجيع بعض المشاريع الصغيرة، أو ما يطلق عليها متناهية الصغر كتربية الأغنام والأبقار، أو استثمار الحدائق المنزلية، فـ 54 أسرة استفادت من القروض التي يقدمها الصندوق، كما يقول وجيه طربيه، أحد أعضاء مجلس إدارته الذي أكد أهمية هذه القروض في تحقيق دخل حقيقي، وفرص عمل مقبولة لتلك الأسر.

نموذج يحتذى

أبناء القرية الذين لم ترهبهم القذائف، ودليل ذلك استمرارهم في البقاء رغم الكم الكبير منها الذي أمطرت به القرية على مدار عدة أعوام، استطاعوا خلق نموذج فريد من التصدي من بوابة زراعة الخضروات التي تحولت من حالة اكتفاء ذاتي في الحدائق المنزلية إلى مصدر دخل رئيسي لعدد كبير من تلك الأسر، مشكّلة بذلك نموذجاً يمكن تعميمه في حال الاعتراف به رسمياً، فالقرية مازال يصفها أبناؤها بأنها منسية من قبل الجهات الرسمية، في إشارة منهم لضرورة الاهتمام بها، وقد يكون تشجيع نموذج برد هو بوابة الدخول في قائمة الاهتمامات الحكومية التي قد تتخطى ذلك لتصل لمرحلة التعويض عن الأضرار التي لحقت بهم، والأخذ بيدهم من جديد، علّ عجلة عملياتهم الزراعية تعود للدوران مجدداً وسريعاً.

رفعت الديك