الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

استذكار.. محمود درويش

حسن حميد
أظنُّ، أن ما من أحد من شعراء العرب في العصر الحديث شاغل الحياة الثقافية، والإبداع، وذائقة الناس، والقضايا الكبرى مثل محمود درويش.
كما لا أظن أن أحداً من شعراء العربية، خلال قرن من الزمان، أخلص لنصه الإبداعي، وقراءاته، وسعيه لمعرفة ثقافات العالم مدوناتٍ صغرى لأفراد، أو كبرى لمجتمعات.. مثل محمود درويش.
كما لا أظن أن أحداً من شعراء العربية، خلال القرن العشرين، (قرنُ الأفكار، والأعلام، والاستقلال، والطموحات، والأحزاب السياسية، ودور النشر، والصحافة، والترجمة، والخيبات الكبرى)، عاش الأيديولوجيا، وتبناها عقيدة، وكرّز لها.. وتعلمها على مقاعد الدرس وعلّمها.. ثم لا نجد تأثيراً لها في نصه الإبداعي.. مثل محمود درويش.
كما لا أظن أن أحداً من شعراء العربية، طوال مئة عام من حياة الناس والمجتمعات، زهد بالاجتماع، والأصدقاء، والصحف، والعشيقات، ومشاغلات السفر، وجواذبِ الإعلام ولواقطه، والظهور في الصورة، وعلى المنابر.. مثل محمود درويش.
كما لا أظن أن أحداً من شعراء العربية في عصر الفضائيات والعولمة أدار ظهره للمعارك الأدبية، والقول والقول المضاد، أو قل الفعل وردات الفعل، وعدم الاهتمام أو الانتباه لكل ما يدار حوله، وحول نصه.. مثل محمود درويش.
كما لا أظن أن أحداً من شعراء العربية، منذ خمسينيات القرن الماضي، وحتى زمن الناس هذا، وربما إلى ما شاء الله من أزمان.. ظلمه النقد الأدبي، أو قل حيّده، أو تجاهله، أو خاف نصه.. مثل محمود درويش.
كما لا أظن أن أحداً من شعراء العربية ومنذ ألف سنة وحتى يومنا الراهن هذا، ظلمته قضيته التي عاشها وعايشها، وأحبها وافتتن بها، على الرغم من إخلاصه المدهش لها..، فوقفت كالمانع والحاجب من أن يقدّر بالجوائز العالمية الثقال.. مثل محمود درويش.
كما لا أظن أن أحداً من شعراء العربية، ومنذ أزمان غابرة وبعيدة جداً، تمنّى الخلق العارفون بالشعر، والإبداع، والثقافة، أن يروه.. مجالسة، وحديثاً، لصيته وشهرته وغناه الإبداعي، وحضوره الإنساني الضافي.. مثل محمود درويش.
كما لا أظن أن أحداً من شعراء العربية قاطبة.. حرص على جعل حياته الخاصة شأناً خاصاً، وشأناً سرانياً.. مثل محمود درويش.
أقول هذا كله.. ونحن نقف موقف الاستذكار، والانتباه، والفقد، والمحبة، والشوق.. لشاعر له قامة طويلة مثل محمود درويش الذي قيل عنه الكثير الكثير، حقاً وباطلاً، قيل عنه، ومنذ بداياته الإبداعية الأولى، إنه شاعر لا يكتب القصيدة بمفرده، وإنما تكتبها معه المعاني المولّدة من سيدة البهاء الكوني.. فلسطين.
قيل إن فلسطين.. هي قضية محمود درويش الأولى، وحلمه الأول، وتاريخه الأول، وغايته الأولى، ووطنه الأبدي.. وهي التي رفعت نصه الأدبي إلى رتبه الشرف الإبداعي، والامتياز الفني، وهي التي أعطت هذا النص اشتقاقاته البكر، ونوافذه الوسيعة، ودروبه الطويلة، وأسراره العصيات على المكاشفة والبدو، وأن النبيل الإبداعي البادي من قصيدته إنما هو نبلٌ سيّلته المعاني الفلسطينية.. تماماً مثلما تسيّل جموعُ النحل عسلها البهيج في الجرار القمرية. قيل إن هذه القضية هي شيطان شعر محمود درويش، وهي وادي عبقره الذي يهيم فيه كي يقتطع من جماله مرة، ومن تراجيديته مرة أخرى، ومن أحلامه مرة ثالثه، نصوصه العواصي على النفاذ أو الاخترام. لكن هذا القيل، وعلى وجاهته، ليس سوى قيلٍ وحسب، لأن العشرات، بل المئات من شعراء فلسطين القدماء والمحدثين، كانت فلسطين قضيتهم، وهمهم، وحلمهم، وشغلهم، وسرانية كتاباتهم.. ومع ذلك لم يحلقوا بعيداً في سماء الشعر مثل الطيور الكواسر، ولم يألفهم الناس، ولم يسعوا إليهم، ولم يسألوا عنهم، ولم يسائلوا نصوصهم، ولم ينتظروها.. كالذي عاشوه وعرفوه وقرّوا به أمام شاعر بحجم محمود درويش حضوراً، ومكانةً، وإبداعاً، وبهجةً.
Hasanhamid55@yahoo.com