ثقافةصحيفة البعث

الآن.. انسَ ما قرأت وابدأ الكتابة

 

نسر الجبال وحده ينطلق دفعة واحدة في السّماء الزرقاء خفيفاً ويعلو ثمّ يعلو حتى يغيب عن الأنظار. مثل هذا الانطلاق ينبغي أن يكون انطلاق كتاب جيّد، فإذا لم تمسك الثور من قرنيه لن تستطيع إيقافه.. والمغنّي الذي يمسك بطنبوره، أعرف أنّ له صوتاً حسناً ولكن لماذا يداعب أوتاره زمناً طويلاً؟ لماذا يحلّق في عالم آخر قبل أن يبدأ أغنيته؟.
قول شاعر داغستان الجميل “رسول حمزاتوف” هذا، أعتقد أنّه بمثابة منارة لكلّ ذي بصيرة، ولكلّ من سار على هذه الدرب الوعرة المحفوفة المخاطر، درب الكتابة الخالد. وإنّي لأراه موجّهاً بالتّحديد لمن تاه به الوثوق حدّ اليقين بامتلاكِ هذه الملكة الذّهبيّة، التي إذا لم ينطق بهواجسها سيموت حتماً. فالكتابة هي شكلٌ من أشكال الحياة بمواجهة الموت بالمعنى المجازي العميق للكلمة. أقصد بالمجازي تلك الحياة اللّافاعلة الاستنساخيّة الاستهلاكيّة التي يحياها القسم الأعظم من الناس، أو تلك التي يتوقّف فيها القلم عن الكتابة لخرسٍ أصابه في الصّميم. والمعنيّون أيضاً بالمقبوس السّابق، أصحاب الكتابات “الجديدة”، والجديدة هنا هي بمعنى راهنيّة اللحظة الزمنيّة التي تنشؤها، ولا نعني بها الجودة الفنيّة، أو المزايا التقنيّة التي تحوزها، بل فقط أن كتّابها ما زالوا في طور الشباب. ويستعجلون الشّهرة، ولا يهم إن كان صدى هذه الشّهرة مجّانيّاً أم لا. وكذلك تشمل كلّ من نام على حرير منجزه وتعالى عن النّقد والتّقويم. فما المانع أن يحسّ هؤلاء بأنّهم عرضة دوماً لامتحان خلقٍ جديد مع كلّ مولودٍ يرى النّور. امتحان يُستعيدون به كامل قلق وبهجة الاستقبال لكتابهم الأوّل! شرط أن يكونوا قد أشبعوه تفنيداً وتشذيباً وتجاوزاً لما قالوه سابقاً قدر المستطاع؟! صحيح أنّ درب الألف ميل يبدأ بخطوة كما يقال، وأنّه يجب على ذوي الخبرة والمران الأخذ بيد من اختار طريقه الشائك هذا إلى الينابيع عبر التّصويب والنقد الإيجابي البنّاء، لكن هذا يعني أيضاً تجنّب الوقوع في شراك امتداح النّصوص أو التّعالي المجّاني عليها، بينما المطلوب هو إيجاد مسافة موضوعيّة ناقدة تجاهها. فكلتا الطريقتين لو اتُبعتا بشكلٍ انفعالي، ستكونان مجرّد مرآة عاكسة لأمراض القارئ/ الناقد وخلله النفسي. والأهمّ من كلّ ذلك هي كثافة وعمق تجربة الشخص ذاته “كائن الكتابة” فاحتراقاته في نيران تجربته الوجوديّة وتطهّره برمادها هما مغذّيا الطاقة الجوهريّة التي تحرّك ديناميكيّة الإبداع لديه. وهنا يحضرني القول المأثور عن أحد الشعراء القدامى المبتدئين حين جاء إلى أحد أساطين الشعر ليكرّسه شاعراً فقال له: اذهب واحفظ أربعة آلاف بيت من الشعر ثمّ عد إليّ، وحين عاد بعد مدة من الزمن أكّد عليه إن كان قد حفظها، فأجابه بالإيجاب، فقال له ثانية: الآن انسَ ما قرأت وابدأ الكتابة. بالتأكيد يجب ألا نؤخذ بالمعنى الحرفي لهذا القول، لكنّ فحواه يؤكّد لكلّ من يحبّ أن يرى بـ “عينٍ ثالثة” أنّ القراءة الكثيفة والهضم المتأنّي للمقروء المتنوّع المشارب وعدم التعجّل في تصدير المنتج حتى التأكد من قدرته على المنافسة، أو على الأقل عدم المغامرة في تصديره قبل استيفاء شروط جودته ومواصفاته الحقيقيّة. فمراكمة الكائن لخبراته وزاده المعرفي سيشكّل بالضرورة، سواء أكان واعياً لتلك التّخمّرات أم لا، ذخيرة متنوّعة لا تزول، بل تتحوّل بكل فلزّاتها ومعادنها المصهورة عبر كيمياء تخصّها إلى مواد معرفيّة وجماليّة متقنة السّبك، يمكن الوثوق بها، في حال توفّرت الذائقة النقدية اللّازمة عند صاحبها لفرز الطّحالب من الزّهور، وهذا ما يتقاطع مع قول آخر للمفكر “هشام شرابي”: “الآن عرفت ما الذي عناه نيتشه بأن القراءة هي فنّ المضغ الذي لا تجيده إلا البقرة!”.
ما قلته لا يعني بالتأكيد استخفافاً بالنّتاجات الشّابة الغزيرة هذه الأيّام “ذكوراً وإناثاً” أو وضع العصي في عجلات دورانها، بل هو محاولة وضع بعض نقاط علّامة على طريق مسارها وحسب. فكلّنا “أقصد المهجوسين بالكتابة” يعرف أنّه بمرحلة معيّنة “مرحلة الشّباب” ثمّة ما يعتصر الكائن من الداخل، متلهفاً للخروج وهذا ما يتشابه به ــ آليّاً ومبكراًــ كلّ صاحب حساسيّة خاصّة، مع تجربة الكاتب الحقيقيّة النّاضجة فيما بعد. ولكن ذلك لا يكفي، بل يجب توفّر قرون استشعار قادرة على الجسّ والملامسة ونفض الغبار كلّما تراكم، والانتباه الشديد إلى طبيعة البذار التي حاول زرعها في تربته. أيّ إلى كلّ ما قرأه سابقاً وأنضجته خبرته في الحياة من تجارب على كافة الأصعدة، ومن ضمنها القراءات المتعددة والنّوعية التي يجب وضعها على محكّ الامتحان والمساءلة الدائمين، وترك كلّ ما من شأنه عرقلة النّهوض الجديد من سبات اليقينيّات السّائدة. وتحديداً في المجال الذي اختطّه لكتابته، أي “الجنس الأدبي” الذي وجد قلمه يسيل باتجاهه. فأنا لا أرى سبباً منطقيّاً يدعو للعجلة واستسهال الأمر، لمن اتّخذَ هذا المنحى الخطر “طريق الكتابة” فنضج التجربة يتطلّب باختصار شديد ذخيرة تراكميّة وأدوات مصقولة تساعد في إحداث التغيير النّوعي المطلوب. فما نفع كتاب لا يضيف شيئاً لما سبق؟!.
ثمّة الكثير من النتاجات المصدّرة للمستهلك “القارئ” هذه الأيام، والتي كانت سبباً في تحفيز هذه التأمّلات النقديّة وهي لا تقف عند جيل الشباب، بل هناك الكثير من الغثّ في نتاجات من يعتبر نفسه بمنأى عن النقد محصّناً بعمره الطويل وإصداراته الكثيرة واحتفاء الإعلام به بطريقةٍ أو أخرى، وإنّني أؤكد أنّ هذه المقدمة تمسّه وتمسّنا جميعاً في الصّميم.
وربّما نستطيع بالقياس أن نطبّق شيئاً من هذا القول على الكثير من النّتاجات التي غاصت في توجّهها الإيديولوجي وغدت أشبه بفقاعات صبيانيّة أو، بيانات حزبيّة فجّة لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به. وبهذا الصّدد يقول المنظر البلغاري “تزفيتان تودوروف” الذي وجد أن توجّهه لا يستقيم مع الشعارات الماركسيّة المعمّمة في بلاده، وفي كلّ المجتمعات الخاضعة للأنظمة الشّموليّة: (كانت بلغاريا آنئذٍ جزءاً من الكتلة الشيوعيّة لذلك لجأتُ إلى موقف كان يتبنّاه كثير من مواطنيّ في العلن، إذعان صامت أو بطرف اللسان للشعارات الرسميّة، وفي السرّ حياة كثيفة من اللقاءات والقراءات المتوجّهة خصوصاً نحو مؤلّفين لا يمكن اتهامهم بكونهم ناطقين بلسان المذهب الشيوعي.. كان لابدّ لي من اكتساب أدوات جديدة للعمل، أحسستُ بالحاجة إلى الاستئناس بمعطيات ومفاهيم علم النفس، والأنثروبولوجيا، والتاريخ، فالأدب لا ينشأ من الفراغ، بل في حضن مجموعة من الخطابات الحيّة التي يشاركها في خصائص عدّة.. فهو يثرينا لا نهائيّاً ويزوّدنا بإحساسات لا تعوّض تجعل العالم الحقيقي أشحن بالمعنى وأجمل. إنّه يتيح لكلّ واحدٍ أن يستجيب لقدره في الوجود إنساناً).
أوس أحمد أسعد