ثقافةصحيفة البعث

محاولة  لقراءة “رحيل باتجاه العودة”

 

إذا كنت فلسطينيا فما عليك إلا أن تكون شاعراً أو قاصاً أو روائيا وإلا فأنت فدائي بالضرورة أي مشروع شهيد، هكذا عرفت النخب الفلسطينية ممن حالفني الحظ والتقيتهم بحكم بطاقة لجوء فلسطينية ورثتها عن والدي الذي ظل يحنّ إلى حيفا حنينه إلى شبابه ولقمة عيش هنية ولو كانت مغمسة بكثير من الألم.

ومع أنه عاد إلى قريته والجبل الذي ترعرع فيه وأحبه إلا أنه صار فلسطينيا مثلما كان سوريا والفصل بين الانتسابين تعسفي، فوالدي هناك في حيفا سمعان الحوراني وليس السوري، وقد أزعم أن أبناء طبريا وصفد واربد ودرعا وازرع والقنيطرة أقرب عادات وتراثا غير مادي يلتقون أكثر من لقائهم مع من يحملون بطاقة هوية رسمت حدودها سايكس بيكو.

وبحكم ذلك الوفاء من أبي صارت صورة حيفا في ذاكرتي وذاكرة إخوتي وأخواتي الذين ولدنا هنا في سورية، أو في عام النكبة، أو التقسيم وما بعده، صورة الفردوس الذي تحدثنا عنه أمي حديث عاشقة مفجوعة، وأكاد أجزم أن أمي أم إلياس عرفت اليتم أكثر من مرة فهي يتيمة فقدت أمها ولم يكن لها أي تصور ذهني عنها، ولربما رأت أمها في أي كائن حنون لا يملك المقدرة على الحركة. وها هي في بلدها تذوق مرارة النكبة وفقدان الحلم ببيت في حيفا يكون لها ولنا رصيدا ما مثله كنز.

لن أسترسل فالاسترسال في هذا الصدد له موضع آخر لكن دراسة الصديقة المجدة عبير قتال (رحيل باتجاه العودة ذاكرة الشتات والداخل الفلسطيني) نقلتني إلى عطر الأمكنة وصورها وكيف تتشكل، وعدت بالذاكرة لأجد أن ذلك العطر الأخاذ قد ينعش وقد يبكي. وقد أفلحت الكاتبة في حزمة من الترتيبات:

أولا في الشكل حيث استعانت باللقاء المباشر واستنطاق الكاتب وليس كتبه وتركته كأي شخصية روائية ولنقل أي بطل روائي يقدم نفسه بنفسه.

وثانياً: إن هذه القامات التي تحدثت عن تجاربها في تحديد المراد من الذاكرة الفلسطينية، باتوا هم الذاكرة وهم جميعهم يستحقون أن يكونوا أبطالا في رواية الرحيل باتجاه العودة، لأنهم أبطال حقيقيون وأوفياء وواضحون في الحياة، والكاتبة لمست ذلك وهاهي تنجح في نقل  الواقع إلى مدونة صادرة عن مؤسسة ثقافية قيادية ورائدة.  ويكفي عطر الاسم لتكمل قراءة النص، من منا لا يشده اسم غسان كنفاني، أو رشاد أبو شاور فكيف بخالد أبو خالد أو عبد الكريم عبد الرحيم وحسن حميد وصالح هواري واحمد رفيق عوض وهدى حنا وماهر رجا، وباستثناء الغسان الشهيد فإن معرفتي بمن ورد من قبل تسمح لي أن أدون وبكل أمانة أن هذه القامات الفلسطينية تجاوزت حدود فلسطين الداخل أو الشتات، وصارت ذاكرة جمعية للعرب والفلسطينيين ولكثير من أحرار العالم من الذين يطمحون للوقوف على الحقيقة.

ثالثا: من حيث المضمون فإن الكاتبة ظلت وفية لعنوان دراستها أو روايتها في رواية أخرى لتسليط الضوء على القضية الأساسية ألا وهي اغتصاب فلسطين وتوزع الشعب بين لاجئين في وطنهم كما هو حال السوريين اليوم ولاجئين على حدوده أو في الشتات، وما إشغال القارئ بصورة الوطن وما إذا كان أجمل في الحقيقة أم في الذاكرة، إلا رغبة كامنة في نفس الكاتبة لمشاركة كل من يهمه الوطن بهذا الأمر، وإعمال فكره ليجيب على تساؤل مشروع: هل صحيح أن من يعيش في وطنه فلسطين لا يرى فلسطين كما يراها حسن حميد ويعمل على ترسيخها في ذهن الناس جميعا؟ أو كما يتطلع خالد أبو خالد بالتوازن بين الوطن والكرامة. وما هذا التباين في النظرة للعنوان بين قامة وقامة، بين من هم في الداخل وكيف هي فلسطينهم وغيرهم ممن هم في الشتات، إلا استكمال لبناء فني جميل قامت عليه الدراسة ولك أن تقول الرواية.

أعترف  أن قراءتي هذه محاولة لدخول الموضوع، وهو أمر يستحق أن نعطيه الكثير من العناية في تناول الشكل والمضمون والمصادر التي اعتمدتها الكاتبة.

رياض طبرة