ثقافةصحيفة البعث

شجرة تحلم بالطيران..قصائد صينية تحمل روح المترجم

 

“شجرة تحلم بالطيران” هو العنوان الذي اختاره الشاعر الصيني “يي يانبن”، لمقدمة كتابه الشعري، وهو العنوان ذاته الذي قام المترجم جهاد عارف الأحمدية بانتخابه عنوانا مناسبا للكتاب الذي قام بترجمته عن الإنجليزية، لمجموعة من الشعراء الصينيين في القرن العشرين، وهو صادر عن الهيئة العامة للكتاب-وزارة الثقافة تحت عنوان: شجرة تحلم بالطيران، مختارات من الشعر الصيني في القرن العشرين.

الكتاب يضم باقة من الشعراء الصينيين، يقدمهم الكتاب حسب المترجم، بعد أن انتقاهم وترجمهم تباعا، وذلك من مجلة (الأدب الصيني) الفصلية التي صدرت باللغتين الفرنسية والصينية، وهكذا واظب المترجم، على الحصول على تلك المجلة، لينقل البديع من نتاج العديد من الشعراء الصينيين، من الإنجليزية إلى العربية، مضمنا إياها في الكتاب الأنف الذكر.

يحكي المترجم عن كونه عاش حيوات مختلفة ومتنوعة وكثيفة، مع تلك الملفات وشخوصها، تلك التي اختارها للترجمة، والتي تحكي أيضا عن حياة الشعراء الإبداعية، وخصائص المرحلة التي عاشوا فيها، سواء بقلم الشاعر نفسه، أو بقلم أحد النقاد الذين قدموه، ولا يخفي المترجم تأثره بالحيوات المختلفة التي عاش على إيقاعها، وهو يعمل على الترجمة، ليحيا مع الشعراء في حياتهم الشخصية، يعاني ما يعانوه، ويفرح لفرحهم، إنه يصاب بالإحساس الذي يحمله النص الأصلي لهؤلاء الشعراء، بحيث تنعكس مشاعرهم بأنواعها في منجزهم، وبالتالي في جوانيات المترجم والقراء عموما، وهذا ما جعله يخلع عباءة المترجم، ليرتدي حسب قوله روح الشعر، وقد حدث أيضا حسب المترجم، أنه خرج في بعض الأحيان عن النص المترجم، وكتب ما يمليه عليه صوت وجدانه على قلمه، فاعتنق بذلك الإيقاع الداخلي لتلك القصائد، بعد أن غافلته غير مرة، لتفر إلى إيقاع التفعيلة، الأمر الذي وجد فيه المترجم، كما لو أنه شجرة تحلم بالطيران.

الكتاب يضم بين دفتيه، ملفين عن شاعرتين، وملفين آخرين عن شاعرين، ثم ملفا خامسا، يحتوي قصائد متنوعة لشعراء ينتمون إلى مناطق مختلفة في جغرافية الصين الكبيرة، حيث اعتمد المترجم في ذلك على التسلسل الزمني لتواريخ ميلاد الشعراء، ففي الملف الأول تحدثت الشاعرة “تشينغ مينغ” عن حياتها التي وجدتها أشبه برحلة في متاهة ضمن يقطينة مغلقة، فالحياة التي عاشتها لم تكن سهلة ودروبها غير ميسرة، لكنها وبعد أن حصلت على الدكتوراه في نيويورك، توجهت إلى دراسة الموسيقى، اعتقادا منها بأن إدراك ثقافة وحضارة بلد ما، يتطلب بالضرورة دراسة أدبها وفنها وفلسفتها، لتجيء أشعارها مبنية على هذه الثلاثية الإنسانية المتجذرة عميقا في الحياة، ومن قصائدها المهمة (غمار الأرز الأدبية، الباب، الظمأ ليث، احتجاج، الخروج من قشرة البيضة، الأخطبوط، موعد مسائي)، وفي حديث للشاعرة عن نفسها، قام الكتاب بتضمينه، تحكي عن الحياة التي عاشتها في عام 1920، عندما كانت الحرب دائرة في الصين، بين القادة العسكريين، هناك وفي ذاك المناخ، ولدت وأبصرت عينيها النور في واحد من بيوت بكين، وذلك في زقاق يدعى “سلة اليقطين المغلقة، الاسم المجازي بما يوحي إليه، فحياة الشاعرة كما تصفها، تصلح لأن تكون بمثابة رحلة في متاهة في يقطينة مغلقة. ونورد من أشعار الكاتبة ما يلي: “لماذا أشجارك العتيقة، المزدانة بالأوراق الغضة/ تومض مثل سبحة/ من الأزاهير القرمزية/لماذا عصافيرك لم تزل تغرد مبتهجة/ وذلك المجز الصاخب، يبكي الأعشاب/ لماذا العشب الذكوري يتطاول ليلا ونهارا، لماذا سماء المساء تبدو أكثر سحرا حينما تدمغها شمس المغيب بالاحمرار/ لماذا صيفك الأخير لا زال يتسكع في يدي”، وفي المقطع السابق يتضح عمل المترجم عليه، لا كترجمة حرفية، بل كترجمة تحمل روح المضمون، وتضفي على القصيدة الصينية جانبا يألفه القارئ المحلي والعربي، سواء في اللعب بالمفردات ومعناها، والابتعاد عن جفاف الترجمة الأدبي، وهذا ما يعترف به الكاتب، عندما قال: وجدت نفسي اخلع عباءة المترجم، لأرتدي روح الشعر”، ونقطة الترجمة للغة عن لغة أخرى، هي في طبيعتها، إعادة خلق للقصيدة ذاتها، بحيث يصيغ المترجم حسب ثقافته، ترجمته لعمل فني ما، وهو يضع نصب عينه جمهوره المحلي.

في الملف الثاني جاءت دراسة يتحدث فيها الناقد “تشينغباو” عن شعر “الحدود الحديث”، الذي بدأ بالتوسع بشكل تدريجي، ليعرف فيما بعد بـ(مدرسة الشعر الغربي الصيني)، مقدما قراءة للشاعر (يانغ مو) كواحد من ممثلي هذا الشعر ومهندسيه.

الحياة القاسية التي عاشها الشاعر “يانغ مو” في المناطق الحدودية، أثرت على وعيه وعلى منجزه الشعري أيضا، وهذه الحياة القاسية، كان لها الأثر الكبير في صقل موهبته، ليصبح من أهم شعراء الصين في القرن العشرين، وبالرغم من كونه بدأ بنشر قصائده في أواخر الخمسينيات من القرن المنصرم، إلا أن اسمه لم يلمع كشاعر موهوب إلا بعد أن أدركت الثورة الثقافية نهايتها عام 1976، ويعتبر ديوانه الذي يحمل اسم (أنا شاب) أنموذجا،في الشعر الصيني، فقصائده كتبت بدماء متوثبة، تفيض بروح الدعابة، أو ما نسميه لدينا الكوميديا السوداء، وهذه التقنية عدة هم الشعراء الصينيين الذين اتبعوها، نظرا لكونها تحمل رموزا من الهم الاجتماعي والثقافي العام وغيره، ما جعل له جماهيرية عالية في العالم، ومما قاله في ديوانه (أنا شاب): “أنا لم أزل شابا يا إلهي/شكرا لأنك وهبتني فرنا غير منتج/ لكي أُخزن شبابي وأصهره، شكرا لأنك وهبتني ثلاجة، لأثلج روحي وأحفظها/ شكرا لأنك وهبتني/ كرة حرير متشابكة/ تاركا لي أن اغزل شرنقتي على ضفة النهر/ وها أنذالا أزال فتيا/لأن أشعاري لا تزال طازجة في عيون الناس/ مثل شراب اللبن المتخمر، في حقيبة من جلد لراع قازاقي”، اللقطة الشعرية السابقة، مكتظة بالسخرية المواربة، من العلاقة غير المنطقيه بين الغيبيات والموجودات، كما أن هذه السطور ببساطتها ومباشرتها،  تحمل نكهة زمن مميز، وعلامة واضحة على المتروك، الذي خلفه التغيير التاريخي، وتعكس بصدق حالة الشاعر في ذلك الزمان بعينة.

الكتاب من القطع المتوسط، توزعت ملفاته على 224 صفحة، تقدم للقارئ فكرة جيدة عن الشعر في الصين، وهذه الترجمة لتلك القصائد وجمعها في كتاب، يتيح للمتلقي أن يتعرف على هذا الجانب في الصين تحديدا، وذلك لشح الحديث عنه والتقديم اللائق به.

تمّام علي بركات