الصفحة الاخيرةزواياصحيفة البعث

أبو شنّار..!

 

حسن حميد
كثيرة هي الآراء التي حاولت أن تبيّن وتشرح فلسفة الإبداع المسرحي وما يهدف إليه من غايات وأحلام، فقيل إن المسرح هو المعلم الأول للحوار، وهو الجهة الأصلية لتعددية الأصوات، وهو الأقدر على استنباط ما تضمره الذات البشرية من رضا وسخط تجاه موضوع بعينه، وهو الأقرب إلى الواقع حيناً وإلى الخيال والمجاز حيناً آخر، وأنه ثقافة النبلاء وقد صارت حواراً وتمظهرات، وأنه ثقافة الجماهير وقد تجلت في مراميها واستهدافاتها.
والحق أن المسرح الذي كان لصيقاً بقصور الأمراء، وبالكنائس، والمدن على وجه العموم هو فعالية إبداعية صعبة، وصعبة جداً، إن أرادت التجلي بكامل البهاء والحضور، وهو الكتاب المسموع والمرئي، والمقروء أيضاً، الذي تكمن فيه تشوفات الناس على اختلاف رتبهم ومستوياتهم.
أقول هذا، وأستذكره أمام القراء الكرام، بعدما خرجت من عرض مسرحية /أبو شنّار/ ذات الفصل الواحد التي قام بتجسيدها الفنان الفذ زيناتي قدسية على مسرح القباني بدمشق عبر ليلتين متتاليتين شهدتا إقبالاً جماهيرياً كثيفاً، زيناتي الذي أعدّه واحداً من عمالقة فناني المسرح عربياً كتابةً وتمثيلاً وعشقاً للمسرح.
فكرة المسرحية قائمة على حلم طويل تقطعه أشواق الذات المهمومة بأمنياتها التي لا تصير واقعاً من أجل الوصول إلى المكان /العشق، والتاريخ /الكتاب، والاجتماع /السعادة، وما تكابده هذه الذات من معاناة عبوس وهي تصعد أدراج الأمل عتبة عتبة، وما تعرفه من خسارات وهزائم، وما يلحق بها من أذيات الفقد التي تهدّم جدران الروح كيفما تحركت.
أبو شنار فلسطيني طرد، مع أسرته، من قريته “إجزم” الواقعة في ضواحي حيفا عام 1948 بفعل القوة القهرية للصهاينة، يعيش في أحد المخيمات ويحلم حلماً طويلاً، فيه من الكابوسية ما فيه، وفيه من الرضا ما فيه، يحلم بأنه تحوّل إلى طائر راح يحوّم في دروب تفتح له في رحابة السماء حيناً، وتغلق عليه، بالثلوج والعواصف، حيناً آخر، غايته غايتان، واحدة أن يرى فلذة كبده /شنّار/ الذي غدا عاملاً في سلطنة عُمان، وثانية أن يرى قريته /إجزم/ التي كان يعرفها ببيوتها، وغدرانها، وحواكيرها، وأشجارها، ودروبها، وطيورها، وناسها.. وما آلت إليه بعد أن غادرها أهلها ليرى ويلمس ويعيش حنين الأرض وشوقها لأهلها الذين أُجبروا على الغياب، وما تعانيه من لوثة الفقد!
وعبر هذا الحلم الطويل تتجلى طيوف الكابوسية الماثلة في السياسة الفلسطينية، ومواضع العطب التي أصابتها فحرقت كل نبيل ورمّدته، منذ خروج مصر من دائرة الصراع العربي /الصهيوني، إلى الفاصلة التاريخية الجارحة عام 1982، إلى ما حدث سياسياً عام 1993، إلى الانقسام المُرّ والاختلاف على كل شيء مهما كان نافلاً أو هامشياً، إلى البهوت الإعلامي وعدم التعالق مع الأحداث الفلسطينية أو التعاطف معها، إلى تراجع الأدوار التي لعبتها الثقافة الفلسطينية، إلى حالات العجز والارتماء والانتظار اللامجدي الذي تعيشه المخيمات الفلسطينية، والمحاولات السياسية الواقعة في مربع اللامبالاة.
/أبو شنّار/ نص مسرحي محتشد بما يجول في الذات التي وعت الواقع، وعرفت التاريخ، وآمنت بالمستقبل، وقد شال به الإخراج بما يمتلك من صيغ ومضايفات ليصير حالاً من الحالات الوجدانية التي تنشد المآلات التي شُغلت بها الأحلام طوال زمن النكبة، وما حملته المأساة من كواره مشتقة من عالم التوحش والظلموت.
و/أبو شنّار/ نص مسرحي كشّاف إلى ما وصلت إليه قضية الشعب الفلسطيني من إعاقات وإحباطات وإهمال على صعد عدة، وما جاءت به الموافقات الرجيمة على طلبات الأعداء، ومنها ضياع الميراث الوطني بعثرةً في أزقة السياسة الخدّاعة، والنص /أبو شنّار/ نص كشّاف للأحلام الثبت التي آمن بها أهل فلسطين ومن حالفهم، وقد ازدادت صلابة وتجذراً مع الأيام. والنص /أبو شنّار/ نصٌ كشّاف لموهبة نادرة حقّاً تحلّى بها الزيناتي قدسية منذ ظهوره الأول.. وحتى اليوم.
Hasanhamid55@yahoo.com