أخبارصحيفة البعث

8 آذار .. ثورة تتجدد، وشعب ينتصر

د/ صابر فلحوط

تمكّن الانفصال الأسود أن يقصم جسر الوحدة، ويخردق الأحلام القومية في دولة، طموحها تجديد العظيم من تاريخ أمتها، على رواسخ من الحداثة والمعاصرة، والمهابة الوطنية والقومية. ولم يجد الحريصون على قدسية هذه الأمة وخلود رسالتها فائدة تذكر من البكاء على الأطلال، وتقاذف المسؤوليات، وفتح دفاتر العتاب، لأن زلزال الانفصال وارتداداته كانت تتطلب الإسراع في تحويل الغضب الطاغي في الشارع العربي إلى فعل خلاق يستخدم العقل المنظم، والإرادة المفولذة لمواجهة الحدث الأخطر قطرياً وقومياً وعلى جميع المستويات. وفي لحظة هاربة من عتمة اليأس ومرارة الألم والتشاؤم، انبرت كوكبة من الرفاق في القوات المسلحة العربية السورية من الذين هالهم “المصاب القومي الجلل” صبيحة الانفصال والذين شاهدوا فيه كيف أشرعت السكاكين على رقبة الوحدة من ثعالب تنمرت لتفترس الأنبل والأجل في حياة المواطن العربي.
وللأمانة التاريخية التي يجب أن تعرفها الأجيال التي لم تكن قد ولدت يوم قامت الوحدة، لابد أن نشير أن معظم هؤلاء الرفاق كانوا يخدمون في الجيش الثاني في دولة الوحدة في مصر، وأنهم تقبّلوا على مضض قرار قيادة الحزب حل التنظيم في القطر السوري كرمى لعيني الوحدة المقدسة، وزعيمها الخالدرجمال عبد الناصر، وذلك لأنهم يؤمنون بأن الحزب السياسي القومي هو الجدار والمتراس الذي يضمن الوحدة، ويحميها من شرور الانفصال وأعداء العروبة.
وقد بدأت هذه النخبة من الرفاق، تتحول إلى لجنة عسكرية قيادية يشكّل الرفيق القائد المؤسس حافظ الأسد كلمة السر فيها، والعقل الأحكم والأنضج في مسيرتها، حيث أسهمت مع الرفاق الذين تلاقوا على كلمة سواء في الحقل المدني في إعادة تنظيم الحزب في القطر السوري، متطلعين إلى ساعة الصفر لتفجير الثورة البيضاء انطلاقاً من الجبهة والمعسكرات القريبة من دمشق الساعة الخامسة صبيحة الثامن من آذار 1963.
وقد أذاع الرفيق سلمان حداد البلاغ رقم 1 من إذاعة دمشق، وبعد لحظات قمنا باستلامه بالهاتف، وقمنا بإذاعته من إذاعة حلب (لضمان وصول الصوت واضحاً إلى المناطق الشمالية).
وما إن سمع المواطنون البلاغ الأول من إذاعتي دمشق وحلب حتى فاضت أنهار الجماهير متلاطمة في شوارع مدن الوطن وأريافه هاتفة للعروبة، والوحدة، مؤكدة تأييدها المطلق لثورة آذار وقيادتها، وعزمها على إعادة الوحدة مع مصر العربية، وإصرارها على القضاء على الانفصال وداعميه من الرجعية العربية النفطية والصهيونية العالمية والغرب الاستعماري. وقد كان الحزب في العراق قد قام بثورة الثامن من شباط في العام ذاته، معلناً الأهداف الوطنية والقومية عينها، مؤكداً التوجه نحو وحدة ثلاثية مصرية سورية عراقية تتلافى أخطاء الماضي، وسلبياته التي اتخذها الانفصاليون ذريعة لارتكاب جريمتهم.
وهنا وللتاريخ أيضاً لابد أن أذكر أن الرفيق علي صالح السعدي رئيس وزراء العراق قام بزيارة سورية بعد أسبوع من ثورة آذار مهنئاً القيادة. ولدى استقباله من قبل عدد من الرفاق في مطار المزة قال وهو ينزل على سلم الطائرة : “ماكو دم، ما أشم رائحة الدم كيف يقولون ثورة ؟!!”، فكان جواب الرفاق المستقبلين: “نحن في سورية قمنا بثورة عقائدية، وطنية وقومية من أجل حماية دماء الناس، وليس من أجل هدرها!!”.
ولقد قدمت الثورة في سنواتها الأولى عشرات البرامج والمشاريع الطموحة، التي تستهدف العدالة الاجتماعية، والنهوض الشامل ومواكبة العصر، والتوجه الصادق لإعادة الوحدة مع مصر العربية، غير أن جبل الثقة لم يكن مشدوداً بما يكفي بين بعض القيادات في القطرين السوري والمصري، إضافة إلى سوء الظن الذي حملته القيادة في مصر إزاء القيادة العراقية الجديدة التي وصفت بالتهور والدموية.. كل ذلك وسواه أجهض مع مرير الأسف محادثات الوحدة الثلاثية التي كانت أبهج أحلام البعث والأمة العربية..
وقد أسهمت إغراءات السلطة وعقاربها والمنافسة على المناصب والمكاسب التي تعمي وتصم في خلخلة التماسك في جدران قلعة ثورة آذار بعد أقل من ثلاث سنوات من قيامها، الأمر الذي قاد إلى انقسام خطير وكبير بين ما سمي بـ “دعاة اليسار الطفولي” أو “اليمين العفن” في الحزب الواحد، كما كان يطلق من عناوين في تلك الفترة.
وتفاقمت الصراعات حتى اقترب مرجل الثورة من الفوران الأكبر، فكانت حركة 23 شباط 1966، حيث واجهت دبابات البعث رفاق الدرب في أكثر من معسكر وميدان، وكانت الغلبة في هذا التطاحن الأخوي والرفاقي للنخبة التي حملت عبء التخطيط والتنفيذ للثورة، كما تحمّلت مسؤولية استمرارها مهما يكن الثمن. غير أن حركة 23 شباط لم تكن خاتمة الإشكالات والمشاكل داخل الحزب، حيث برز صراع جديد بين عقليتين: إحداهما مناورة، تحاول الاستحواذ على السياسة والحزب والسلطة وأخرى تعد نفسها، وهي كذلك، “أم الصبي” الذي يهمها سلامته وأمنه مهما يكن الثمن. وقد بلغ تأجج النار في صدور بعضهم أن أحد الرفاق من الذين سبق أن أسهموا بشجاعة (تبلغ حدود التهور أحياناً) في الثورة وحركة 23 شباط بأخطر حركة في تاريخ الحزب، حيث قام باعتقال رئيس الدولة والأمين العام المساعد وعدد من الرفاق القياديين وهم في اجتماع في أحد فروع الحزب، الأمر الذي كاد يتحول إلى كارثة لولا مسارعة القائد المؤسس حافظ الأسد، وكان وزيراً للدفاع وقائداً للقوى الجوية والدفاع الجوي بإرسال الطيران لتهدئة الوضع وحسم الإشكال وإعادة المياه إلى مجاريها الطبيعية.
وفي هذه الأجواء الملبدة بكل الاحتمالات، جاء عدوان الخامس من حزيران 1967 من جانب العدو الصهيوني الذي شكّل نكسة إضافية على الواقعين الميداني والاجتماعي في الوطن، الأمر الذي دفع فروع الحزب وقواعده، مسنودة من جماهير الشعب الذي ضاق ذرعاً بحالة الفوضى والقلق، إلى مناشدة الرفيق حافظ الأسد بما يملك من شجاعة الموقف، وصلابة العقيدة، والحرص على الحزب، للتحرك بعدما كادت سورية تفقد دورها عربياً ودولياً، فكانت الحركة التصحيحية التي أعادت الحزب إلى حاضنته الشعبية، وتبداً عملية الإبداع في بناء سورية الحديثة على أسس من القوة والمنعة والاستقرار الذي لم تشهد مثله منذ أيام معاوية ابن أبي سفيان حتى عهد “التصحيح المجيد”، حيث أصبحت الرقم الأصعب في معادلات المنطقة.
وقد توالت إنجازات التصحيح متمثلة ببناء الجبهة الوطنية التقدمية التي مثّلت ائتلاف الأحزاب السياسية في الوطن وقيام مجلس الشعب على قواعد متينة من الديمقراطية، ولعل أعظم إنجازات التصحيح على الإطلاق هو إعداد الجيش العقائدي الذي حقق النصر المبهر في حرب تشرين التحريرية 1973، كما واجه بدعم من شعبنا العملاق الحرب الكونية طوال سنوات ثمانٍ فيما سمي بـ “الربيع العربي”.
وقد أثبت جيشنا العقائدي، الذي أعده القائد المؤسس حافظ الأسد أنه كان وفياً للبعث والشعب وثورةآذار وكفؤاً للصراع الدامي، والمعارك الشرسة خلال الحرب الوطنية العظمى فوق كل شبر من أرض سورية العربية.
وها نحن اليوم في اللحظات الأخيرة من الإعداد للاحتفال بالنصر الناجز في هذه الحرب غير المسبوقة في التاريخ، لتبدأ بعدها مسيرة الجهاد الأكبر في معركة بناء العقول والوعي والإرادات والعزائم في سورية ما بعد النصر الأكبر والأجل في حجمه وتاريخيته..
تحية لشهداء البعث من حرس قديم شكّل النواة الأولى للتنظيم، وتحية للرفاق الذين حملوا عبء القضية الفلسطينية التي تسمّى جيشنا باسمها، وضحى من أجلها عشرات السنين.
وتحية الإجلال والإكبار لروح القائد الخالد مؤسس سورية الحديثة وفارس آذار وتشرين الذي أعطى العروبة والكرامة ذوب روحه وجوهر عبقريته ونسغ حياته..
وتحية لجيشنا الباسل الذي عمّر بدمه الطهور قلعة للنصر فوق كل شبر من أرض الوطن الغالي، وكل التحية على الدوام لقائد شعبنا وحزبنا الرفيق الأمين العام بشار الأسد الذي يشهد له الأصدقاء والأعداء بالحنكة والحكمة والاقتدار في معارك السياسة والسلاح معاً.