ثقافةصحيفة البعث

الموروث اللغوي وأثره في بناء اللغة

 

في كتابه “الموروث اللغوي وأثره في بناء اللغة” الصادر عن وزارة الثقافة- الهيئة العامة للكتاب، وتحت عنوان عريض هو “قضايا لغوية”، يذهب الكاتب “محمد عطا موعد” نحو التأكيد لعدة مرات موزعة على صفحات الكتاب التي لا يصل عددها إلى المئة صفحة من القطع المتوسط،على المرونة والجمال والفكر الذي تحمله اللغة العربية الفصحى مقارنة بلغات أو لهجات أخرى، على اعتبار أن اللغة هي إناء الوعي، والشعوب لا حياة حقيقية لها دون لغة، متحسرا على الأجيال التي يراها اليوم، وهي تتكلم باللهجات الوافدة مع العديد من المنتجات الإلكترونية، كاللهجة التي يستخدمها أهل مواقع التواصل الاجتماعي، وما فيها من إقحام لمفردات لا علاقة لها بلغتنا لا من قريب ولا من بعيد، وهو يحذر مرارا أيضا في الكتاب، من عدم فهم هذه اللغة، خصوصا وأنها تُكتسب ومنذ الطفولة بداية من الأهل ثم رياض الأطفال، إلى المدرسة، وما يشاهده من برامج تلفزيونية، والكاتب يؤكد على أهمية أن تقوم العائلة، بالحديث ولو لساعة يوميا، مع أطفالها باللغة العربية الفصحى، فما يعلق في ذهن الطفل في مرحلة عمرية مبكرة، هو من سيحدد الوعي الذي سينشأ عليه، محذرا تحذيرا شديدا من كون اللغة المحكية غير قادرة على الخروج إلى أبعد من حدود بلده، بل إنها تتغير من منطقة لمنطقة، هذا في القطر الواحد، فكيف سيكون الحال مع اللهجات العامية لباقي الدول العربية؟ خصوصا أن ثمة لهجات لا يمكن التواصل من خلالها، لأنها منقطعة عن حاضرها وماضيها ومستقبلها أيضا.
البحث الذي يقدمه الكاتب، والذي يحاول من خلاله أن ينهض بالمستوى اللغوي للناشئة، ومن المعلوم أن المستوى اللغوي القويم والأداء السليم للغة لا يأتي بين ليلة وضحاها، فاللغة لا تجري على الألسنة والأقلام على نحو صحيح وسليم، إلا إن كان البناء اللغوي لمستخدم اللغة بناء صحيحا متكاملا، وعليه فلا بد من معرفة الأسس التي يقوم عليها البناء اللغوي، حتى تجري اللغة في مجراها الطبيعي في الحياة، وهذا الحد لا تتأتى منه الغاية، إن كان ثمة ضعف أو نقص وخلل، فكيف يطيق المرء التعبير عن غرضه، وينقل ما يدور في خلده، وليس في جعبته بضاعة يفزع إليها، أو أن يكون حظه منها نزرا، أو أن تكون الأركان التي تُبنى عليها اللغة من ضوابط ومعايير غير واضحة المعالم، كأنها حطب.
يتساءل د. “موعد” في الكتاب الآنف الذكر عن السبيل الذي يجب العمل وفقه، لرفع المستوى اللغوي؛ وذلك ليطيق الناشئة إدراك أسرار اللغة وجمالها، وهذا ما يذهب عموما الكتاب أو الكتيب للخوض فيه.
بات معلوما أن لسماع اللغة في الصغر أثرا كبيرا في البناء اللغوي القويم، وهاهم أهل العصر (الجاهلي) يدفعون بأبنائهم إلى البادية، ليتعلموا اللغة من منشئها الأصل،وذلك من خلال السمع أولا، وهذا عموما ما سيخوض فيه هذا البحث، وذلك في معرفة السبل التي يمكن من خلالها، رفع المستوى اللغوي عن طريق السماع خاصة، وهنا يتعامل الكاتب مع الموضوع، وفق مستويين، الأول للناشئة، والثاني لمن تميز منهم.
فمن المعروف أن الطفل لا يشرع بالتكلم دون أن يحاكي ما سمعه، فمهارة التكلم إذا تُبنى على ملكة السماع، فإن كان ما يسمعه الطفل صحيحا حاكى ذلك، لكننا يجب أن نضع حسب المؤلف يدنا على الجرح في الإجابة الواضحة وبدون مراوغة ولف ودوران، على السؤال التالي: هل ما يسمعه أطفالنا يعينهم على استخدام اللغة استخداما سليما؟ وللإجابة على سؤال كهذا لا بد لنا من النظر فيما يسمعه أطفالنا في عصرنا، في البيت أولا وفي المدرسة ثانيا، وعبر وسائل الإعلام بمختلف أنواعها.
يدق د. “موعد” ناقوس الخطر، عن كون الأطفال في بيئتنا العربية لا يكادون يسمعون الفصحى إلا لماما، فالطفل ومنذ أن يأتي إلى الحياة، يسمع المحكية من والديه، ومن محيطه، وهذه المحكية حسب “موعد” لا تُعينه على البناء اللغوي السليم والصحيح، لأنها أساسا لا تقوم على ضوابط، فاللغة التي لا تقوم على قواعد وضوابط ومعايير، هي لغة لا تصلح في مجال الفكر والعلم والحضارة، وقد تصلح هذه المحكية للتواصل بين الناس، لكتها عاجزة أن ترقى بهم في مدارج العلم والفكر. الكتاب أو البحث عموما يقوم على مبدأ الفكرة وطرح نقيضها ومن ثم يجيب الكاتب على الاعتراض الذي قد تلقاه على فكرة ما، فحسب ابن جني اللغة هي سلوك يقوم به المرء، ملخصا هذا الحال بوصفة للغة وذلك بقوله: “أما حدها فإنها أصوات يُعبر بها كل قوم عن أغراضهم”، لذا فإن المحكية التي تؤدي حاجة الناس في التفاهم بين بعضهم البعض، وهي بهذا تكون قد حققت المراد منها، وأيضا تكون وافقت ما جاء به أبو الفتح بن جني، عن كون “حدها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم”، فلماذا إذا يجب أن نتعلم الفصحى؟
من المعروف أن العرب لديهم لغتان، الفصحى والعامية، وهما لغتان منفصلتان عن بعضهما البعض، فبينما توجد للأولى قواعد ومعايير وضوابط، لا تحتاج الثانية إليها، وتلك القواعد والمعايير والضوابط، هي ما يسميها الباحثون في الشؤون اللغوية: “عكاكيز” اللغة الفصحى، التي تستند عليها لتبقى واقفة، فيما المحكية ليست بحاجة لهذا، فهي مرنة أولا وبنت اليومي، إنها لغة التواصل بين الناس، والغناء والتعبير عن مختلف مجريات الحياة، لكنها كما يؤكد الكاتب، ليست لغة فكر وعلم.
الموروث اللغوي وأثره في بناء اللغة، من الكتب التي يمكن وصفها أنها تتصدى لقضايا لغوية ضخمة، ولكن هذا التصدي أساسا يبقى على السطح، عدا التكرار لبعض الأفكار، ولا يعمل للغوص في بواطن اللغة الفصحى واللهجات المحكية، إلا أنه وبما لا يدع مجالا للشك، يؤكد أن اللغة الفصحى هي لغة العقل والعلم والفكر، ودونها لا قيامة لهذا الثالوث، فاللغة كما قلنا إناء الوعي، وهذا الوعي تزداد سعته وأفقه، كلما ازداد عدد الكلمات والمفردات التي يحفظها المرء، ففي حين حفظ الناس ألوف الكلمات الموجودة في القرآن الكريم، تقتصر المناهج الدراسية على ثلاثة أو أربعة آلاف على الأكثر، وهيهات بين من يفكر وفي وعيه يختزن مئات ألوف المفردات، وبين من يفكر أيضا وليس في جعبة وعيه إلا القليل من المفردات.
الكتاب يستحق أن يُعمل على بلورة أفكاره بمزيد من البحث والتقصي وطرح الأفكار والأسئلة، لكنه وفي وضعه الحالي، لا يعدو عن كونه كتاب جيب يُقرأ مرة واحدة على الأكثر.
تمّام علي بركات