ثقافةصحيفة البعث

“سكوفيا”.. نصوص لم يلوِ عنق طبيعتها التجنيس

 

يروى، أن سئل أبو زيد الهلالي، عن أسعد أيام حياته، فأجاب: عندما كنت أملأ طاقيتي بالتراب. “مأثور شعبي”
قبل أن تأخذكم الأفكار بعيداً، أو تذهب بكم الظنون، مثلما ذهبت بي، حين توقعت أنّ “سكوفيا” اسمٌ أجنبيٌ، مثله مثل “كلوديا” أو “صوفيا” وما شابه. يحسن بي إعلامكم أن سكوفيا، اسم قرية من قرى الجولان السوري المحتل. قرية تكثر فيها الينابيع: “عين السدرة”، “عين الجردة”، “عين الطيّون”، وعين “التينة” وهي أشهرها على الإطلاق: (حيث الوعر، والتوت البري الملتف، وشجرة تين من أيام أبينا آدم، تنبت من قلب العين، وتظللُ كالخيمة عين التينة “…” ويُحكى قديماً أنّ الماء بعين التينة يسيل من سيقان الجنيات، ويُسقي أشجار الزيتون، حتى إنّ التينة يُحكى: إحدى الجنيّات).
يُقال إنَّ اسم قرية سكوفيا، يعود لأجدادنا الكلدانيين أو الآشوريين، ومعناه الأرض الجبلية المليئة بالصخور. والعهدة في ذلك، على الأديب “عماد الفياض” السكوفياني بامتياز.
أولاً: لأنه ابن قرية سكوفيا. ثانياً: لأنه صاحب مسرود بعنوان سكوفيا، نشرته حديثاً، الهيئة العامة السورية للكتاب في دمشق.
قرية وعاشق
أنْ تلتقي سكوفيا، وتنعم بمفردات جمالها.. يعني في صلب ما يعني، أنك سوف تلتقي غير شقيقة وزميلة، غير رفيقة طفولة وأخت صبا وعشيقة روح..
مع مُستهل استقبالك من قِبل سكوفيا وترحيبها بك، تعود القهقرى إلى غير ذكرى وزمان ومكان، سعيداً تارةً، حزيناً تارةً، ومأخوذاً بذا وذاك تارة أخرى:
تعود إلى غير ضيعة وحارة وحاكورة ودرب ومفترق وحزب وحب، إلى أسماء، استدارات، حيثيات، وأحداث؛ رصَّعت حيطان ذاكرتك في أوقات شتّى ومواضع ومناسبات، بل تلتقي مرابع ومراتع وآثار ومخابئ وأناساً..
لِمَ لا نقول: تلتقي ذاتك! ذواتك القديمة، أبعاضك التي تركتها، وربما تركتك، على مشارع بُرَك، وأطراف خرائب، على شفا تناول عرائس زيت وزعتر وسمن وسكر، على أعتاب اكتشافك جسدك، وأبواب تلصصك بغواً على مخادع النساء:
(ويُحكى همساً أن القمر ليس وحده مَنْ يتلصص على الملاّيات بل إن عيوناً أُخرى تتلصص من خلف العليق الملتف، وأن الملاّيات يعرفن بذلك ويستمتعن بهذي اللعبة، لعبة من يتلصص من خلف العليق الملتف والمتشابك، ومَنْ يتجاهل تلك الأعين).
تلتقي وتعود، وتعود وتلتقي بأشخاص وأشياء وذكريات. وستكنُّ الفضل والود، في كل مَنْ وما تلتقيه وتعود إليه؛ لقرية اسمها سكوفيا ولعاشق اسمه عماد.
جنس أدبي
على ما في كتاب “سكوفيا” من نصوص لم يلوِ عنقها التجنيس، وخصوصية تشقُّ على التصنيف. فهي ذات طبيعة رجراجة مخاتلة، تُشبه المذكرات والسير الذاتية، وماهي بمذكرات ولا بسيرة ذاتية، على ما فيها من استذكار وسِيَرِيَّة.. تُشبه الحكاية، وما هي بحكاية، على ما فيها من حكي.. تُشبه الرواية، وما هي برواية، على ما فيها من روي.. تُشبه القصة، وما هي بقصة، على ما فيها من قص.
أمَّا كلمة “قصص” التي ذيَّلت غلافها الأول، فلم تكن بقلم الكاتب، وإنما من وضع الناشر ولاعتبارات محض تقنية على الأكثر، بيد أن ذلك، لم يكن ليقلّم قيمتها الأدبية، أو ليثلم كماليتها النوعية وجماليتها، كجنس فنّي نسيج وحده. بل على العكس من ذلك، قد زادها بهاءً وفرادة! أوَلَم تقع في صلب روائع الأدب والفن، أعمال خرجت على ثوابت نوعها، القارّة في سواد نفوس كلاسيكيّي نقدة عصرها، وفؤوس نقدهم؟
مأتى الأسباب
كثيراً ما تناول الأدباءُ في أعمالهم، موضوعة الطفولة، كنقطة مركزية مركوزة في ذات كلٍّ منّا. يدور في فلكها، بنسب مختلفة: بعداً وتماهياً وأهمية، غير قليل من شواغل حاضرنا ومستقبلنا. بغض النظر عن انعكاس ذلك علينا في كل مرحلة – إن لم يكن في كل حين– سلباً أو إيجاباً.إلا أن معظم تلك الكتابات، في حدود اطلاعنا، مع تفاوت نجاحاتها على صعيد أو آخر، في روائز النجاح. كانت تستعيد عن طريق التداعي والاستذكار، معلماً أو آخر من معالم الطفولة، مصورةً إياه عبر كاميرا لحظة الاستعادة أو الاستذكار، وليس عبر كاميرا لحظة الحدوث. كما أن بعض الأدباء الذين حاولوا التصوير، عبر الكاميرا الأخيرة، جاءت صورهم: إما باهتة غائمة، بسبب تواضع إمكاناتهم في التمثل والاستحضار، وإمّا واضحة جلية، لكن مزورة. أمّا الذين حالفهم التوفيق في محاولتهم، في هذا المضمار، فهم من القلّة القليلة في الأدباء. من هنا أولاً، ومن غيره من المسوغات تالياً، نزعم، أنها تأتت أسباب مياز “نصوص الطفولة” لعماد فياض.
سامحني يا رب:
بلى، في طليعة الحوامل التي نهضت بالنجاح الوازن لـ”نصوص الطفولة” كانت “البراءة”.. تلك البراءة، التي لم يفضُّ بكارة عذريتها الزمن، ولم يُسقط حق ملكيتها التقادم. ثمة براءة، خصَّبت تُربة سكوفيا وأينعت ثمارها، تجلّت منذ بداية نصوصها:
(.. وأنا الطفل المندهش بحكايته والكلمات الغريبة التي لم أفهمها، أعرف أن البحرة ليست بحراً، يا ربي كيف يكون البحر!)..
براءة،انتظمت تربتهاوتخللت ذراتها:
(وأنا الولد المندهش والمتفتق على أسئلة شتى تُزعج أمي، وأبي يتأفف أحياناً من أسئلتي.. وأنا الولد يُعجزني الكلام.. أنا الولد المنذهل، الولد المحتار بكل شيء من حولي أسأل: أنا الولد المسكون بأسئلة الكون جميعاً.. الولد الحائر مما أسمع)..
براءة، لم تغادرنا لدى مغادرتنا آخر ورقة من نصوصها:
(وأنا الولد ما زلت حزيناً على سُبحة الكهرمان التي سرقتها من جدتي ولم يعرف ذلك أحدٌ غيري. ويزداد حزني كثيراً فقد ضاعت مني لا أعرف أين وكيف. سامحني يا رب فأنا صغيرٌ جداً)..
حقول سكوفيا:
عبر مسروده مدونة الطفولة: التيمة/البحر، التي اختارها الكاتب/ البحّار، لتعوم في لجّتها سفينة نصوصه، طولاً وعرضاً وعمقاً. تسنّى له على مدار رحلته (الرحلة التي من السذاجة قياسها بزمن الترحال ومسافته) تسنّى له معاينة غير مكان وتاريخ وتُراث وتقليد واختراع وشخصية، مثل: (عين الماء، البحيرة، الصندوق، الطاحون، العيد، ليلة الحنّا، طبق القش، الفخ، التلفزيون، الطين، الراعي، ناطور الكرم، العروس). رسمتها جميعاً، على اختلاف أنواعها وألوانها، الذاكرة الطفلية للكاتب، بوساطة قلم الرصاص والأسود والأبيض فحسب.
لئن كنّا لا ندّعي، في انطباعنا الأوّلي هذا، عن مسرود سكوفيا؛ العرض لسائر حيازته من مطارح شتّى، تأخذ بألباب المشاعر. مشاعر الزائر، لاسيما منها، تلك الأكثر قرباً لجهته الأنسية.. مطارح في الذات وفي الغير سطعت جاذبيتها، في حسن وصدق ترجمة السارد لها، أكثر من سطوعها في جمال موجوداتها، نصاً وروحاً. حرّيٌ بنا ختاماً، التنويه باثنين فحسب، من تلك المطارح، التي تنهض بالمسرود صوب الاكتمال، الأمر الذي لا يعني كماله طبعاً:
الأول هو تعبير “وأنا الولد..” مع ما يليه من صفات ومُضافات، معرفّة (بكسر الراء المشددة وفتحها). التعبير/اللازمة، الذي اُستفرِغ تكراره من ملالته المُثبطة، ليستنبت بدلاً منها إشاقة مُنشطة. ويُعفى من عطالته اللفظية، فتستحيل أداة تنويع في المعنى وتوكيد وتفعيل.
والثاني هو نُدرة وقوعنا في حقول سكوفيا الأدبية، على نباتات غريبة متطفّلة، مثل: نبات يُدعى “أدب السياسة” أو”الأدب المُسيس” وما في حكمهما، على الرغم من وجود لون المباشرة في محصول تلك الحقول، اللون الذي غالباً ما تتلونه تلك النباتات الضارة الآنفة. كل ذلك، لصالح سيادة نبات “سياسة الأدب” بمعناها الفكري الإبداعي الأشمل: الذي ينزع، لتنقية حياة المجتمع من جميع ما ينحطّ به إلى حضيض الشراسة والتوحش؛ وتثقيفها، ورفدها بكل ما من شأنه الارتفاع بها والسمو، إلى ما فيه ثرائها.. ورغدها.. ورقيّها!
حسني هلال