رأيصحيفة البعث

التوبة التنموية والوعي الاستثماري

 

 

لا يمكن إرساء تطبيقات فعليّة لمفهوم التنمية المتوازنة بقرار واحد، بل ثمة استحقاقات صعبة تعتري تلك الطريق الطويلة المؤدية إلى حالة التوازن، ولاسيما ببعده الأفقي، لا تعترف بكل أدبيات التفاوض والمناورة ومهارات تدوير الزوايا الحادّة.
استحقاقات تجاهلناها طويلاً، ربما لعدم إدراكنا الدقيق لها، أو على الأقل لم نكترث بها بسبب تلقّينا الخاطئ لمتطلباتها، فكانت تنميتنا لا كما نشتهي، وإن شئنا الصراحة لا بدّ أن نعترف بأنها كانت عرجاء إلى حدّ ما، رغم قسوة وقع مثل هذا الادعاء، لكنها الحقيقة المختبئة وراء بعض ملامح النهوض الخدمي بالأرياف، التي كانت بالفعل إنجازاً، إلّا أنها غير كافية لنيل لقب “الامتياز التنموي” وفق محتويات قائمة الموارد التي يزخر بها الريف السوري.
الفقر.. البطالة، جائحتان تسللتا إلى أريافنا مطارح النماء المفترض، وبكل ما يتفرّع عنهما من ارتكاسات حقيقيّة على المستوى الاجتماعي بمنشأ اقتصادي، تستحقّان الوقوف وإعادة النظر بهدوء في توزيع الأدوار مجتمعياً، فقد آن الأوان لأن يكون الكل مسؤولاً بمستويات شخصيّة واعتبارية، فللدولة مسؤولياتها التي نعرفها جيداً، لكن ثمة مسؤوليات كثيرة وكبيرة للأشخاص الطبيعيين بكل ما تحتضنه رقعة هؤلاء الواسعة والمترامية الأطراف من تباين في الإمكانات.
ولا نظنّ أن في مثل هذا الطرح توطئة لإبراء ذمم، أو البحث عن حوامل غير تقليدية لمسؤوليات العبء التنموي، بل هي إملاءات الواقع الجديد والتصورات الخلّاقة لسورية كما تستحق، وكما يمكن أن تكون، عبر توزيع الأدوار الحقيقيّة للوصول إلى غاية التوازن التي باتت هدفاً لازماً بعيداً عن احتمالات الانحراف والتعثّر.
فلم يعد من المقبول التعايش مع المفارقة القاهرة الأكثر حضوراً في مشهدنا الاجتماعي والاقتصادي، وهي أن مناطق الإنتاج الوفير هي الأكثر تأزّماً بالفقر والتردّي التنموي، ليس بسبب اختلالات في عدالة التوزيع، بل لتردّي ثقافة التدبّر والوعي التنموي لدى حائزي العائد النقدي النهائي للموارد في هذه المناطق، والشواهد كثيرة في أرياف أهلنا في الجزيرة العليا والمنطقة الشمالية، وفي المنطقة الوسطى أيضاً، حيث التباين الصارخ في الملاءات النقدية والمستويات المعيشيّة.
منذ عشرين عاماً كانت الكتلة النقديّة التي تُدفع لمنتجي القمح 50 مليار ليرة سورية، عندما كان إجمالي كتلة الموازنة العامة 400 مليار ليرة سورية، لكنها كانت تضيع في متاهات استهلاكية مجهولة تنتجها قلّة الوعي الاستثماري وسوء التدبير.
وهذا العام تم تحضير 400 مليار ليرة سورية في أروقة البنك المركزي كثمن لمحصول موسم القمح، أي ما نسبته أكثر من 10% من الموازنة العامة لهذا العام، والمبلغ بالإجمال جاهز للتسديد بمجرّد تسويق الإنتاج. لكن السلسلة يجب ألّا تنتهي هنا كما كل موسم، بل لا بدّ من أن نجد طريقة أو آليّة ما لنكون أمام سلسلة تنمويّة جديدة، من يقودها هذه المرّة ليست الدولة أو الحكومة، بل أصحاب هذه العائدات ذاتهم، لأننا أصبحنا أمام واقع جديد قضى بتحوّل، ولو جزئي في العبء الاستثماري، وهي الحقيقة التي علينا التسليم بها واقعياً.
التراكم والتكامل عنوانا الأداء التنموي الجديد، وهذا يعني أننا أمام مهمة مجتمعيّة، نتماهى بها مع المجتمعات التي حققت قفزات هائلة، فمناطق إنتاج القمح يجب أن تكون عبر العائدات المجزية لهذا المحصول، مجمعات عملاقة للمشروعات العائليّة الصغيرة باختصاصات وأنماط إنتاج تقودها خصوصيات البيئة الإنتاجية في هذه المناطق، وبالطبع ستكون كفّة مشروعات التصنيع الزراعي وخطوط الإنتاج البسيطة، الأكثر رجحاناً في حسابات الجدوى والرواج التسويقي.
نحن هذا العام أمام 400 مليار ليرة سيجري إفرادها في أيدي أشخاص منتجين يجب ألّا تتسرّب في قنوات الاستهلاك الأجوف، فهي تساوي تقريباً نصف الكتلة الإجمالية لرواتب وأجور حولي 1،6 مليون موظف تعيل – افتراضاً – 8 ملايين نسمة، إن سلّمنا بأن متوسط عدد أفراد الأسرة 5 أشخاص وفق معطيات المكتب المركزي للإحصاء.
ناظم عيد