الصفحة الاخيرةزواياصحيفة البعث

يوم القدس العالمي..!

 

حسن حميد

أبداً، لا يمكن لعاقل قرأ تاريخ القدس وعرف ما فيه من ظلموت وقهر وأذيات ثقال، إلا ويقرّ أن تلك الساعة الأليمة التي مشاها سيدنا المسيح تحت ثقل صليبه الذي حزّ رقبته وكتفيه وأدماه، ونشّف ريقه، وأبداه في مشهد غير إنساني، في درب الآلام.. هي ساعة ذروة الظلموت الذي وقع على سيد المحبة، وعلى مدينة القدس التي لها مهابتها وجلالها وتوقيرها داخل كل نفس.
منذ تلك الساعة، بدأ التاريخ يدوّن مظلومية القدس وأهلها وقهرهما بالقوة الباطشة عدا بعض الفترات التي صفا فيها الزمن الوطني حين اشتدت سواعد أهلها، وحين سوّرت القدس بالحراسة الكاملة كي لا تعبث بها الأيدي السود تغييراً وتحويراً، لكن مثل هذا الأمر ظل طيّ مناوبات كثيرة، رجحت فيها كفة القهر حتى صرخت أرض القدس واستغاثت، وحتى صرخ تاريخها واستغاث، وحتى بكى أهلها دماً وهم يرون أهل الغطرسة والقوة العمياء يتناوبون عليها كي لا تظل القدس قدساً، وكي ينحني أهلها ويذلوا!
قليلة هي المدن ونادرة التي لها ما للقدس من تاريخ فذ، ومكانة عالية، وصولة في المعاني، فهي المدينة التي تدور الخليقة كلُّها حولها بوصفها معنى لا ينادده معنى، فأهل الديانات السماوية يقفون في حضرتها وقفة التعظيم والجلال، والآخرون من أهل العقائد الأخرى يواقفونها بوصفها دارة للقيم النبيلة السامية!
ولهذا كانت العقول والقلوب التي حباها الله بالنورانية تهفو إليها، وتنصت لما تقول، والعيون تحدق إليها لترى ما وقع عليها من عسف، وفي كل الأزمنة، وفي كل الأوقات، فتبكي بكاء المألوم، حدث ذلك في أزمنة تاريخية كثيرة، كانت قبل الميلاد وبعده، وفي أزمنتنا الراهنة أيضاً، لأن الظلم الصهيوني الواقع ومنذ سبعين سنة وأزيد على القدس وأهلها، هو ظلم لا يطاق، ولذلك وفي لحظة نورانية، يطلع الإمام الخميني، وينادي بإعلان يوم عالمي للقدس يكون موعده الجمعة الأخيرة من شهر رمضان سنوياً، كي يعي الناس عدالة قضية القدس المغصوبة من الصهاينة منذ سبعين سنة، وأهمية هذه اللحظة النورانية تتجلى في أن الإمام الخميني ورغم شواغله في ترتيب شؤون الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، إلا أنه وبعد وقت يسير جداً أعلن مناداته بيوم القدس العالمي الذي صار منذ ذلك الوقت موسماً للعدالة الإنسانية، عدا عن أنه موسماً للوطنية البهيجة، تصدح فيه حناجر الملايين: القدس، القدس! أعرف أن القوة عمياء، طرشاء، بكماء، لا حواس لها، وجلدها قاس مثل جلد حيوانات النيص، وهي لا تسمع صوت الحق، ولا تعرف معاني العدالة والخير والجمال، ولا تعي مقاصد كلمة الإنسانية، ولكنني أعرف جيداً، أن هذه القوة تسقط دائماً بالضربة القاضية، تسقط بالفجاءة الراعبة، وأنها لا تدوم، كل كتب التاريخ تقول هذا وتتحدث عنه، ولهذا ثمة قيمة في الدنيا لا تموت، ولا تحول، ولا تزول، ولا تبهت هي كلمة الحق، والقدس حق لأهلها، للمؤمنين بمهابتها وجلالها وتاريخها، حتى لو عمّتها ظلامات أهل القوة والغطرسة، لأن لهذه القوة والغطرسة دورة، هي دورة الباطل، أما الحق فله مدار هذه الدنيا، ومن دونه الدنيا ليست دنيا.
أزمنة الرومان واليونان والفرنجة كانت دورة دم وبغي طالت القدس بالأذيات الثقال، لكنها ولّت مدحورة بقوة الحق، ودورة البغي والدم الصهيوني المسنودة بالإرهاب اليوم مصيرها المصير ذاته، فهي إلى زوال ومحو واندحار.. وبقوة الحق الذي يتوالد مع توالد الأجيال ويتجلى نوراً مع كل شهيد فلسطيني يرتقي إلى السموات العلى وهو ينادي: القدس، القدس، وهذا هو جوهر نداء يوم القدس العالمي الذي يعمّ معناه اليوم العالم كله، والذي يحمل مشعله المؤمنون بقوة الحق الأبدية انتصار لشعب قاوم الظلم ولا يزال، منذ مئة سنة وأزيد.
Hasanhamid55@yahoo.com